تصرّ مراجع ديبلوماسية غربية على متابعة زيارة الرئيس سعد الحريري لروسيا شكلاً ومضموناً وتوقيتاً وشموليّة. فاللقاءاتُ لم تستثنِ أحداً من القادة الروس الكبار وتوّجها أمس بلقاء الرئيس فلاديمير بوتين ما يعني أنها تناولت مختلفَ القضايا المطروحة على الساحتين الدولية والإقليمية بالإضافة الى تلك التي تعني لبنان. الأمر الذي سيتيح قراءةً أكثرَ وضوحاً للإستحقاقات المقبلة. فكيف قرأتها هذه المراجع؟القراءاتُ الداخلية السطحية لزيارة الحريري الروسية وعدم إعطائها ما تستحق من عناية واهتمام سياسي وإعلامي، لها ما يبرّرها. إذ إنّ المسؤولين منهمكون في معالجة ذيول العمليات العسكرية الأخيرة عقب عملية «فجر الجرود» وطلب التحقيق في الأحداث التي شهدتها عرسال بعد 2 آب 2014. لكنّ الزيارة حظيت بمواكبة ديبلوماسية غربية وعربية بعيداً من الأضواء سعياً الى فهم كثير من التفاصيل التي يمكن من خلالها قراءة التوجّهات المقبلة في لبنان وسوريا والمنطقة.
ففي مجلس سياسي وإعلامي مصغّر فنّد أحد الدبلوماسيين الغربيين الأسباب التي دفعت بلاده الى مواكبة هذه الزيارة بعناية غير مسبوقة، وأكّد فهمه وتفهّمه إنشغالَ المسؤولين اللبنانيين وأجهزتهم الأمنية والعسكرية بالتداعيات التي تركتها الأحداث الأخيرة وما يمكن أن تؤدّي اليه المواقف المتنافرة بين اللبنانيين. وقال: «أنا أفهم حجمَ العناية المطلوبة من رئيس الجمهورية ومعه القادة الأمنيين لمعالجة التداعيات السلبية لكل ما جرى على الساحة اللبنانية.
فليس مسموحاً أن تحصل أيّ هفوة أو دعسة ناقصة يمكن أن تحيي المخاوف من فتنة مذهبية بين السنّة والشيعة في البلاد. فكل ما رافق فتح المعابر الآمنة للإرهابيين من المناطق التي حوصروا فيها في جرود القاع ورأس بعلبك ومحيطها، كما في القلمون الغربي السوري وعلى جانبي الحدود ثمناً للمعلومات عن مصير العسكريين كان يمكن تفهّمُه لولا الصدمة التي رافقت اكتشاف أنهم لقوا المصير المعلوم.
فالنهاية المأسوية وعودتهم جثامين مقابل مشهد العبور الآمن للإرهابيين بأسلحتهم الفردية ومقتنياتهم المالية والمادية الى حيث ما أرادوا في باصات مبرَّدة فتحَ الباب واسعاً أمام إجراء المقارنات السلبية التي أطلقها أكثر من طرف ومحاكاة كارثية للوضع تسبّب بالشعور الغاضب لدى عائلات العسكريين واللبنانيين عموماً من دون استثناءات يمكن احتسابُها.
وأمام هذا الواقع فإنّ الإعلان عن التحقيقات في أحداث 2 آب وما تلاها بنحوٍ زمني محدود يتوقف عند تحديد الظروف التي أدّت الى استشهادهم ومحاسبة المقصّرين في أيّ موقع كانوا سياسيّين أم عسكريين قد زاد في الطين بلة.
فالخطوة في رأي هذا الدبلوماسي جاءت متسرّعة وفي توقيت غير مناسب، فما حصل قبل أن تكتمل مراحل الإنتصار كان يجب تأجيله، وما كان مسموحاً أن يواكبها هذا الضجيج السياسي والإعلامي وحجم الإستثمار الذي رافقها سعياً الى تثميرها في النزاع الداخلي على كل المستويات.
كذلك بالنسبة الى الموقف من النظام السوري في هذه المرحلة بالذات ومحاولة تكريس انتصار غير مسبوق لفئة على أخرى، وقد حان أوان تكريسه في الإدارة والجيش والمؤسسات، فطفت على السطح مجدّداً وفي أيام معدودة كلّ مظاهر الإحتقان الداخلي المذهبي والسياسي، واعتقد البعض أنه حان أوان «الإنتقام» السهل.
ومن دون الغرق كثيراً في هذه القراءة الديبلوماسية للأحداث، فقد تمّ تصويب النقاش مجدّداً في اتّجاه تقويم زيارة رئيس الحكومة لروسيا، بدايةً في توقيتها كما في شكلها ومضمونها. فرأى الديبلوماسي أنها جاءت في أفضل توقيت، فلبنان الخارج من انتصاره على الإرهاب حظي بدعم وتفهّم وتقدير دولي غير مسبوق بمعزل عن النقاش الداخلي في لبنان.
والى الترحيب الذي عبّرت عنه الدول المانحة للجيش سلاحاً وعتاداً وتنميةً لقدراته القتالية، وتحديداً الأميركيين والبريطانيين، فقد استدرج الجيش دعماً دولياً غير مسبوق استحقّ تقديراً مماثلاً لدى القوى التي تناهض الحلفَ الدولي وموسكو واحدة من قادته فكان لا بدّ من زيارتها طلباً للدعم السياسي والديبلوماسي والعسكري في آن، وطلب دعم عسكري محدّد يتناسب مع أنواع الأسلحة التي تستخدمها قوى الجيش البرّية والصاروخية.
والى هذه الملاحظات، فقد اعتبر الديبلوماسي، أنّ لبنان، الى كونه من دول الحلف المعلن ضد الإرهاب، لديه مشكلة كبيرة تتجلّى في حجم النزوح السوري وتداعياته السلبية. فلم يسبق لأيٍّ من المسؤولين اللبنانيين أن ناقش مع القادة الروس ملف إعادة النازحين السوريين الى بلادهم بعدما ابتدعوا «مناطق خفض التوتر» التي يديرونها ويراقبونها بفعالية، وأنه لا بدّ أن تكون لهم كلمة في ملفات العودة تتقدّم على أيّ ملفّ سوري داخلي أو إقليمي أو دولي.
وتلاقى الديبلوماسي ومحدّثوه على كثير من النقاط الأساسية وابرزها أنّ التعهّدات والوعود الروسية يمكن أن تتحوّل أمراً واقعاً في وقت قياسي على عكس التعهّدات الأميركية وغيرها من دول الحلف الدولي.
فقد أثبت الروس قدرتَهم على إدارة الملفات الحافلة بالتناقضات بمجرد أن تتناول مطالب اسرائيل والأردن وتركيا وايران وبعض دول الخليج في آن، كذلك أثبتوا قدرتهم على ضبط الوضع في كثير من المناطق برعاية عسكرية مباشرة أو بالتفاهمات الأخرى. وقد ظهر جلياً، وأيّاً كانت النتائج المترتّبة على الغارات الإسرائيلية على أهداف مختارة، أنّ هذه الغارات مبرَّرة في رأيهم.
ومع الإعتراف بفشل الروس بتلبية مطالب تل ابيب كاملة لكنهم في الوقت عينه سمحوا لها بدور محدود في مواجهة هاجسها الأكبر من الدور الإيراني وحلفائه المتعاظم في سوريا منذ أن برّروا لها اغتيالَ جهاد عماد مغنية وضباط إيرانيين وبالإغارة المستمرة من وقت لآخر على المواقع النووية والكيماوية السورية من دون أيّ عقاب أو ردّ فعل غاضب.
وفي نهاية هذه القراءة، يصرّ الديبلوماسي على القول إنّ زيارة الحريري لموسكو «جيدة وفي توقيتها الصحيح والدقيق» وأنها ستؤسّس لزيارة ناجحة لرئيس الجمهورية يبدو أنها حُدِّدت في النصف الثاني من تشرين الأول المقبل بحيث يكون بعض البرامج الروسية والدولية قد أُنجز ليتّضح كثير من المعطيات المتّصلة بمستقبل الأزمة السورية، إذ ليس هناك أيُّ إجماع على عودة الهدوء قريباً، لا بل إنّ استمرارَ الحرب في سوريا في السنوات المقبلة مرجّح وسط اليأس من تفاهمات واسعة.
ولذلك فإنّ نجاح الروس في إقامة بعض «المناطق الآمنة» سمح للجيش السوري وحلفائه باستعادة السيطرة على مناطق استراتيجية واسعة بأكثر من معيار سياسي وأمني وديموغرافي واقتصادي. وإنّ تحسّنَ العلاقات بين بيروت وموسكو سيؤمّن كثيراً من الضمانات التي يطالب بها لبنان على أكثر من مستوى، لجهة احترام حياده وأمنه وتعزيز قدرات الجيش وإعادة قسم من النازحين الى أراضيهم، وهو ما ستثبته الأيام المقبلة.