لم تتعلّم الولايات المتحدة الأميركية ولا العالم معها، من كارثة 11 أيلول 2001 الإرهابية شيئاً، لذلك تتكرّر «الكارثة» بطرق عدة ومختلفة، وبنتائج أحياناً أكثر كارثية ودموية وخراباً. اعتقد الأميركيون عبر الإدارات المتوالية، أنه بالحرب يمكن القضاء على الإرهاب، خصوصاً ما كان منه مسؤولاً عن 11 أيلول. فكانت «الحرب الكبرى ضدّ الإرهاب». وكان العراق «كبش المحرقة»، بعد أن وفّر نظام بغداد آنذاك بنفسه كل الأسباب الموجبة للحرب عام 2003، بسبب «عنتريات» خطابية لا تستند على الأرض بشيء.
لم يُشنق صدام حسين فقط، لقد «ذبح» العراق، ولم يُولد منه بعد 14 سنة سوى بلد مشوّه. مهما كانت
النيات الآن طيبة، وهي في جميع الأحوال مستحيلة، فإن العراق انتهى، يجب الانتظار سنوات طويلة للتعرّف إلى الجديد منه، سواء كان دولتين أو ثلاثاً.
لم يفكر أحد في واشنطن بكيفية التعامل مع «القاعدة» وما بعدها. لم يقبل الأميركيون البحث بداية عن مسؤوليتهم في ولادة هذا «الوحش». رفضت الولايات المتحدة الأميركية الاعتراف بأنها اقتلعت خمسين ألف عربي من بلادهم للانخراط في حرب إسلامية لإسقاط الشيوعية. وعندما انتصرت أميركا وانسحب السوفيات، لم يُبحث في مستقبلهم، ولا حتى ماذا سيحملون إلى بلادهم عندما يعودون، بعد أن تشبّعوا بالأصولية. لم يكن إسقاط الشيوعية سوى حجّة أميركية للانتصار في الحرب الباردة. وكان هؤلاء القادمون من الشرق إلى أفغانستان مجرد «لحم مدافع» وكأنهم بلا التزام ولا حتى فكر وإيمان.
ببساطة «زرع» الأميركيون خمسين ألف عربي مسلم في أفغانستان، وحصدوا «القاعدة» ومعها كل الإرهاب الذي عرفه العالم في ما بعد وحتى الآن. «غوانتنامو» غزَّت الحقد بدلاً من اقتلاعه. كان على واشنطن، وما زال حتى الآن، العمل على المساهمة في إعادة بناء المجتمعات المشرقية، كما فعلت مع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. قليل من الانتباه والكثير من التنمية، كانا يكفيان للانطلاق في إعادة البناء. قد لا تكون شعوبنا بعقلانية وتصميم اليابانيين لكن على الأقل كانت لديها الرغبة والطموح. الدليل أن مصر التي أعاد بناءها جمال عبدالناصر، رغم العديد من السلبيات، قفزت درجات عديدة بسرعة وكفاءة وسط حروب عدة وقعت فيها، بينما اليابان تفرّغت بسلام لإعادة البناء، وهي إذ نجحت في ذلك، فإنها دفعت الثمن أيضاً. فتحوّلت إلى «عملاق اقتصادي بأرجل من فخار» بحاجة دائمة لحماية الولايات المتحدة الأميركية حتى في مواجهة كوريا الشمالية.
السياسة الأميركية، فشلت في كل شيء رغم كل التحولات. هذا الفشل أنتج «داعش» بطريقة غير مباشرة. الأسوأ من ذلك أنه لا داعي لتكرار ما حصل ويحصل حتى الآن، فـ«داعش» أخطر من «القاعدة». نهج «الذئاب المنفلتة»، أسود ودموي أكثر، وهو لا يتطلب تنظيماً ولا تمويلاً. الإرهابي الذي يدهس الأبرياء يُرعب مجاناً، ولم يفكر أحد في واشنطن ولا في الغرب وحتى في روسيا، بكيفية التعامل مع هذا الجيل من القتلة، وما سيتولّد منه وعنه من أجيال أخطر وأكثر دموية، لأنها وُلدت ونشأت ونضجت في مجتمعات وحتى مخيمات حاقدة.
الملايين من النازحين في سوريا والعراق مثلاً حتى ولو عادوا إلى مدنهم وقراهم، علماً أن الأكثرية منهم لن يعودوا، إما بسبب توزيع ديموغرافي من نتاج الحرب، أو لأنه لن يُسمَح لهم بالعودة، هؤلاء «صبار» المجتمعات القادمة التي سينتقل «شوكها» مع «الرياح» إلى المجتمعات الأخرى.
الولايات المتحدة سلمت روسيا «مفاتيح» سوريا وربما معها المنطقة، مقابل القضاء على «داعش» من دون الأخذ في الاعتبار «اليوم التالي» للانتصار على «داعش». حتى الآن تتبع موسكو استراتيجية التوازن، «إسرائيل تضرب وإيران تتمركز». ولكن مثل هذه الاستراتيجية موقتة وليست دائمة ولا ثابتة. خصوصاً أن مسألة «استيقاظة» الولايات المتحدة الأميركية، ستبقى قابلة للنضوج على نار خافتة الآن لكنها قابلة للعودة كنار البراكين. كل شيء يتعلق بالإدارة القائمة في البيت الأبيض. من المُلاحظ حتى الآن أن البنتاغون يتحرك وكأنه يؤسّس للغد الذي يكون فيه الرئيس الأميركي يملك استراتيجية متحركة وواسعة ومُنتجة. ليس المطلوب أن تدخل واشنطن في حرب مع روسيا، لكن ليس مقبولاً بالنسبة للأميركيين، أن يكون «الدب» الروسي حرّاً في الحركة، و«النسر» الأميركي مقيّداً لا يمكنه التحليق.
تجربة كوريا الشمالية أكثر من مُهينة لواشنطن. دولة صغيرة مارقة تُهدّد وتنجح في إجبار «العملاق» الأميركي بالجمود والاكتفاء بالصراخ. من الواضح حتى الآن أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت «عملاقاً» مريضاً. هذا التحوّل خطير على العالم كله. أخطر ما فيه تزاوج الإرهاب بالعجز، إلى درجة التساؤل: «ما الخطر في أن تغرز سيفاً في «الثور» الذي ينزف»؟