الفيلم بنصّه وحواراته وشخصياته مليء بالأبعاد السياسية والطائفية، ويغوص في تبعات الحرب الأهلية وخطاباتها التي لا تزال تصدح حتى يومنا هذا... وهو بشكل مختصر يروي قضيّة خلاف بين شاب مسيحي من سكّان الأشرفية ورجل فلسطيني مسلم بسبب «قسطل بلّوعة»، سرعان ما يتطوّر إلى قضية رأي عام، قبل أن يتدخّل فيها قطيع المحازبين من كلا الطرفين والإعلام والسياسة وتصبح تشكّل تهديداً للسلم الأهلي.
أصبحت الأفلام التي تتناول الحرب الأهلية اللبنانية مملّة ومعلوكة، لكنّ «قضية رقم 23» مختلف تماماً بشكله ومضمونه، ولا يمكن مشاهدته من وجهة نظر سياسية أو اجتماعية، بل من منظورٍ سايكولوجي يفتح الآفاق على المستقبل من خلال الغوص في الماضي، غير مهتمّ بفتح الجراح بل بتقطيبها... يقول الأشياء وقحةً بأسمائها ويشير بالإصبع إلى الجلّاد والضحية، وبأسلوب لم نعهد مثله كثيراً لا في الإعلام ولا الدراما ولا السينما في لبنان.
«قضية رقم 23» ليس مجرّد فيلم سينمائي لبناني، بل هو وطن موضوع في غرفة عمليات تحت يديّ الجرّاح زياد دويري، يخضعه لعملية تجميل نفسية يسخّف فيها شوائب الحرب وأسبابها التي يمكن أن تكون ببساطة قسطلاً من بلاستيك، ويجمّل سمات السلم والتعايش من خلال استئصال أورام الأحكام المسبقة المتجذّرة في شخصياتنا.
لا يمكن التوقف عند هوية الكاراكتيرات في الفيلم وانتماءاتها العقائدية والحزبية، لأنها مجرّد مثال عن كل ما هبّ ودبّ من أحزاب في هذا البلد... فجميع مَن في الفيلم هم مذنبون وجميعهم أبرياء أيضاً، وما من سلطة قادرة أن تحكم عليهم سوى نظرتنا نحن للآخر، فبمجرّد أن نتقبّله تسقط عنه كل التهم ونصبح جميعنا متساوين بعين التاريخ الذي مثّلنا بجثّته فقط من أجل وجهة نظر...
وكيف كان لهذا الفيلم أن يتحقّق لولا ممثلوه المبدعون، ومَن كان ليصدّق أنّ عادل كرم ممثل كوميدي، فقد تعملق في دوره حتى أصبح بحجم فيلم بأكمله، وأبدع في أداء شخصيّته وتفنّن في تعبيراتها، وكانت عيناه وحركة وجهه تتكلّم بصمت في كلّ لقطة، يجذب الكاميرا إلى إنفعالاته ويُخضعها بفعل قساوة دور عرف كيف يظهر أبعاده النفسية والاجتماعية قبل الجسدية.
عادل كرم لبس الدور حتى أبكانا في ضعفه، وسحرنا في رجوليّته ومواقفه، وفاجأنا في وقاحته، وقرّفنا في عنصريته وأذاب قلوبنا في حنّيته... عادل كرم أبهرنا في دوره حتى أقنعنا أننا أمام ممثل لبناني من الطراز العالمي.
ويبقى الحبل على جرّار الإبداع مع كميل سلامة، الذي غرف كل العهر والعنجهية والتسلّط الموجود في زعران هذا البلد ووضعها في كاراكتير المحامي القادر أن يشعل بلد بكلمة. جسّد كميل سلامة دور الذئب في ثياب الحمل ببراعة، سحرنا ببراءة عينيه وأخافنا بحركة يديه وتنقّلاته أمام العدسات. فضلاً عن الأداء اللافت للممثل الفلسطيني كامل الباشا الذي لم يتكلّم كثيراً بل أبدع في التعبير.
أمّا ريتا حايك التي اعتقدنا أنها أبهرتنا على المسرح وتفاعلنا معها في الرداما، ها هي تسحرنا على الشاشة الكبيرة في دور سينمائي يليق بممثلّة لا ترضى أن تمنح التمثيل أقلّ من شغفها.
ومثلها ديامان أبو عبّود التي كانت حرّيفة في تجسيد صراع الحضارات وإقناعنا بالأمل الضئيل الموجود في جيل يبحث عن التغيير، وكريستين الشويري في دورها اللافت إلى حدّ بعيد وفي قدرتها على التأثير.
تواطأت كاميرا زياد دويري مع الممثلين، وأخذتنا من خلال الكادرات المشغولة بحِرفية والسلاسة في المونتاج إلى داخل عالم كل كاراكتير، ودفعتنا للتعاطف مع الطرف الذي كنّا نظنّه العدوّ وعرفت كيف ترينا الوجه القبيح للفئة التي نتعاطف معها.
«قضية رقم 23» فيلم سينمائي لبناني قويّ بنصّ دويري وجويل توما، مبدع بأداء ممثلّيه، ملفت بحركة كاميرته، عميق ببحثه ومعالجته، وقح بصراحته. والسؤال بالآخر، مين بيسترجي يتعرّى من إنتماءاته ومن أحكامه المسبقة، مين بيسترجي يترك الماضي يلّي بدغدغ عواطفه بالبيت ويحضر الفيلم؟