من القضايا التي نشعر بأهمية خاصة للحديث عنها قضية المجالس التي يرتادها الشباب، ولا سيما في عصرنا الحاضر، حيث إنّ هذه المجالس قد تكون سبباً لهداية الشاب، وقد تكون سبباً لانحرافه وتدمير حياته، فما هي المجالس التي ينبغي للشاب ارتيادها؟ وما هي المجالس التي ينبغي الابتعاد عنها؟ ونتناول هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
1-مجالسة الناس حاجة ملحة
في البدء يجدر بنا القول: إنّ للإنسان طبيعةً مدنيّة فطره الله عليها، وهي تدفعه للاختلاط بأبناء جنسه وتملي عليه بمعاشرة الآخرين ومجالستهم واللقاء بهم والتحدث معهم، وانسجاماً مع هذه الطبيعة وبوحي منها تجد أنّ الإنسان ومنذ فجر التاريخ اندفع إلى التلاقي والتواصل مع الآخرين وتشكيل المجالس والنوادي والملتقيات.
والإسلام بدوره يشجع على التلاقي واتخاذ المجالس، لأنه كما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "لقاء الأخوان مغنم جسيم وإن قلّوا" ، فالمجالس لها فوائد كثيرة وجمّة وهي تحقق أغراضاً ومصالح شتى، ولا سيما على الصعيد الاجتماعي والتربوي، لأنّ التواصل مع الآخرين هو في الوقت الذي يُخرج الإنسان ولا سيما الشاب من عزلته ومن سلبيات العزلة والفراغ، فإنّه يكسبه الأنصار والأعوان، ويمدّه بالخبرة والتجربة، والمجالس بما تؤمّنه له من فرصة لتلاقح الأفكار وتبادلها فإنّها ستثري تجربته وتغني ثقافته، لأنّه كما قال الإمام علي (ع): "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" ، ويقول الشاعر:
وليس كثيراً ألفُ خلٍ وصاحبٍ وإنّ عدواً واحداً لكثير
2-أدب المجالس
وللمجلس في الإسلام آداب خاصة، تتصل بالمجلس نفسه، وبروّاده، وبكيفية الجلوس، وكيفية الحديث، وتمكننا الإشارة إلى أهم آداب المجلس:
أولاً: البدء بالسلام، وذلك عند الدخول إلى المجلس، وكما يحسن بالداخل البدء بالسلام فإنّه يجب على المتواجدين فيه رد السلام عليه، لأنّ "السلام تطوع والرد فريضة"، كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص) ، ولا بدّ لنا أن نلفتُ النظر إلى أنّه إذا دخل الإنسان مجلساً وكان هناك واعظ يتكلم أو قارئ يقرا القرآن أو مدرس يعلم تلامذته .. فيجمل به الدخول دون ضجيج، ودون أن يرفع صوته بالسلام على الحضور مثيراً بذلك الصخب..
ثانياً: الجلوس حيث ينتهي بالإنسان المجلس، هذه وصية رسول الله (ص)، وعلى هذا كان سلوكه (ص) أيضاً، ففي الحديث الذي يحكي لنا أوصاف رسول الله (ص) يقول أحد صحابته: "كان رسول الله (ص) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أنّ أحداً أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه" ومن خلال هذه السيرة العطرة لرسول الله (ص) ومن وحي تلك الوصايا الجليلة يتعلّم الإنسان التواضع واحترام الآخرين.
وعليه، فالسلوك الذي يحرص عليه البعض من الإصرار على الجلوس في الصف الأمامي وإذا لم يجد محلاً في صدر المجلس فإنّه ينصرف أو يحرج البعض بالقيام والجلوس مكانه، هو خلق ذميم ومكروه في الإسلام، لقد كان رسول الله (ص) وهو أشرف وأكرم خلق الله تعالى لا يجد غضاضة في الجلوس حيث انتهى به المجلس، ولا يتخذ لنفسه مكاناً مميزاً، حتى أنّ الداخل عليه كان لا يعرف من هو النبي (ص) ومن هم صحابته، ولذا كان يبادر إلى التساؤل: أيكم محمد (ص)؟
هذا من الزاوية الأخلاقية، وأمّا من الزاوية الفقهية القانونية، فإنّ من يسبق إلى مجلس فهو أولى به ولا تجوز مزاحته عليه، لقوله (ص): "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" ، بيد أنّ هذا لا ينفي أنّ مقتضى الأدب هو أن يوسّع المرء للآخرين، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا..} ( المجادلة: 11)، وأحياناً يستحب للمرء وربما وجب عليه أن يقوم ويُجلس الآخرين، كما لو كان الشخص جالساً في أماكن العبادة كالمساجد، وقد أدى أعماله الواجبة أو المستحبة، ودخل إلى المسجد أشخاص آخرون يريدون القيام بأعمالهم العبادية.
ثالثاً: احترام أسرار المجالس وعدم إفشائها، فإنّ ذلك من مقتضيات الأمانة، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) "المجالس بالأمانات، وليس لأحدٍ أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه.." . أجل لو كان الحديث الدائر في المجلس فيه خيانة للأمة، أو تخطيط للتآمر على أحد الناس بهدف قتله أو نحو ذلك فهنا تكون رعاية المصلحة الأمة أو مصلحة حفظ النفوس والأعراض أهم من مفسدة إفشاء أسرار المجالس، ولذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "المجالس بالأمانة إلاّ ثلاثة مجالس: مجلس سفك فيه دم حرام، أو مجلس استحل فيه فرج حرام، أو مجلس يستحل فيه مال حرام بغير حقه" .
3-المجالس المحبوبة
غير خافٍ أنّ للمجالس أنواعاً عديدة ومختلفة، فثمة مجالس مثمرة ونافعة ومفيدة للإنسان في دنياه وآخرته، وفي المقابل فهناك مجالس غير نافعة ولا مفيدة، بل إنّ بعضها مسيء له أخلاقياً وروحياً، والنوع الأول من المجالس هو المجالس العامرة بذكر الله أو التي تذكرّه الآخرة أو التي تتلى فيها تعاليم الإسلام، أو التي تزيد المرء علماً أو عملاً، أو تفتح له أبواب التواصل المثمر مع بني الإنسان، أو تساهم في تقريب القلوب وإصلاح ذات البين، ومجالس كهذه هي مجالس محبوبة لله ولرسوله (ص)، وإليك أهّمها:
أولاً: مجالس طلب العلم
إنّ كل مجلس يزيد في ثقافة الإنسان ويقدّم له معلومة مفيدة، أو تجربة نافعة هو مجلس علم، وهو مبارك بل هو مجلس عبادة، ولذا يرى بعض الفقهاء أنّ إحياء ليلة القدر بطلب العلم والمذاكرة لا يقلّ عن إحيائها بالعبادة والتضرع، أو قل: إنّ مذاكرة العلم فيها هو نوع إحياء لها ويؤجر صاحبه كما يؤجر من أحياها بالعبادة. وينقل الشهيد مطهري في كتابه قصص الأبرار حديثاً مفاده أنّ رسول الله (ص) دخل ذات يوم إلى مسجد فرأى جماعتين من المسلمين: واحدة تصلي وتدعو، وأخرى منشغلة في طلب العلم فاختار (ص) الجلوس مع الثانية، وقال: "إنما بعثت للتعليم" .
ويروى أنّ فقيهاً دخل على أحد الفلاسفة يعوده، فوجده في حالة الاحتضار، فتوجه الفيلسوف وهو في هذه الحالة إلى الفقيه وسأله سؤالاً شرعياً، فتثاقل الفقيه في الإجابة رأفة به ومراعاة لحاله وقال: ليس الوقت مناسباً لذلك، فقال له الفيلسوف: أيها الفقيه أنا أسألك سؤالاً: إذا متُ وأنا عالم بهذه المسألة هو أفضل أم أموت وأنا جاهل بها أفضل؟ قال: الثاني أفضل، قال: - إذاً - فاذكر لي حكمها.
ثانياً: مجالس المساجد
غير خاف أنّ في التردد على المساجد وارتيادها فوائد كثيرة وبركات عديدة، فعن أمير المؤمنين(ع):"من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان: "أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو سمع كلمة تدله على هدى، أو كلمة ترده عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً" .
ثالثاً: مجالس الدعاء وقراءة القرآن
ومن أنفع المجالس وأعظمها بركة وفائدة مجالس قراءة القرآن والتدبر فيه وتلاوته وتجويده، وكذلك مجالس الدعاء والذكر، كدعاء كميل أو غيرها من المجالس التي يجتمع المؤمنون فيها للعبادة، أو التوبة إلى الله، ففي الدعاء: "مالي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك سيدي" .
رابعا: المجالس الأسرية
وهي المجالس التي تجتمع فيها الأسرة بكامل أبنائها، ففي هذا المجالس صلة رحم وتداول في هموم الأسرة ومشاكلها ومحاولة إيجاد الحلول لها، والإسلام يرغب في هذا الأمر، لأنّ العمل على تطويق المشاكل وحلها داخلياً هو أجدى وأفضل بكثير من نقل المشكلة إلى المحاكم والملاحقات القضائية، قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً} ( النساء 35)، ويحسن بالأبناء بعد أن يتزوجوا وينجبوا أن لا ينسوا البيت الذي تربوا فيه والحضن - حضن الأب والأم- الذي ترعرعوا فيه، وعليهم أن يصحبوا أبناءهم أسبوعياً - على الأقل- إلى بيت الجد، ليتلاقى الأولاد والأحفاد وأولاد العم والخال، ليتعارفوا ويتواصلوا، ويدخلوا بذلك السرور على الجد والجدة، ويستفيدوا من تجاربهم، "ففي التجارب علم مستأنف" . كما روي عن أمير المؤمنين (ع).
خامساً: مجالس المؤمنين
وهي المجالس التي يلتقي فيها المؤمنون، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها! قيل: يا رسول الله وما روضة الجنة؟ قال: مجالس المؤمنين" ، ومن الطبيعي أنّ هذه المجالس إنّما عدت روضة من رياض الجنة لكونها مجالس عامرة بذكر الله أو نصيحة عباد الله، أو ذكر وصايا النبي (ص) وسيرته العطرة، أو تعاليم الأئمة من أهل البيت (ع)، ففي الحديث عن الإمام الباقر(ع) يخاطب ميسراً وهو أحد أصحابه: "أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ قلت: إي والله، إنا لنخلو ونتحدث ونقول ما شئنا، فقال: أما والله لوددت أني معكم في تلك المواطن، أما والله إني لأحبّ ريحكم وأرواحكم، وإنكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد" .
سادساً: مجالس العلماء والأتقياء
إنّ مجالسة العلماء والأتقياء تثري المرء وتزيده علماً وتقى، ولذا كانت من أحب المجالس عند الله تعالى، فقد روي أنّه سأل بعض الحواريين روح الله عيسى بن مريم (ع) من نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته ويرغبكم في الآخرة عمله ويزيد في منطقكم علمه" ، وعن الإمام الصادق(ع): "مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة" .
سابعاً: مجالس العمل الاجتماعي والثقافي
إن المجالس التي تتضمن ندوات فكرية، أو إقتصادية أو صحية أو نحوها هي من أفضل وأجمل المجالس، لما فيها من فوائد جمّة للإنسان، وهكذا المجالس التي تتضمن أعمالاً ترفيهية أو رياضية.. فإنّ الإنسان ولا سيما الشباب بحاجة ماسة إلى هذه المجالس، وقد ورد: "روّحوا القلوب ساعة بساعة" ، وعن أمير المؤمنين (ع): "إنّ هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم" .
4- المجالس الممقوتة
وفي المقابل فإنّ ثمة مجالس يمقتها الإسلام أو يحرمها ويدعو إلى مقاطعتها والابتعاد عنها، وإذا تواجد المرء فيها فعليه أن يعمل على تغيير وجهة المجلس من مجلس يبغضه الله إلى مجلس يحبّه الله، بأن يصدع بالحق وينكر المنكر وينتصر للمظلوم، "أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر" ، وإن لم يستطع الإنسان الانتصار للمظلوم والردع عن المنكر، فعليه الإنسحاب من المجلس، ولا يجوز له البقاء فيه.
فالمطلوب إذاً في مثل هذه المجالس إما:
1- محاولة تغيير وحهة المجلس.
2- وإن لم يستطع فعليه الانسحاب.
فعن الإمام الصادق(ع): "لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره" . وفي حديث آخر عنه (ع): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلساً ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن" .
وكان أحد أصحابه (ع) يتردد على مجلس يصف صاحبه الله بأوصاف البشر، فقال له الإمام (ع): "إما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته"، فقال: هو يقول ما يشاء، أيّ شيء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ (وهذا عذر نسمعه من الكثيرين اليوم، حيث يقال: أنا لا أفعل الحرام فما شأني بالآخر) فقال له (ع): "أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً" .
إذاً مقاطعة هذه المجالس هي من باب:
1- النهي عن المنكر.
2- أو عدم تشجيع الانحراف.
3- الانتصار للمؤمنين.
4- كما أن وجود المؤمن في بعض هذه المجالس يؤدي إلى هتك حرمة نفسه.
5- على أنّ ثمة أثراً وضعياً لمن يجلس في هذه المجالس، وهو أن تناله نقمة الله سبحانه وعذابه الذي قد يصيب أهل هذه المجالس.
وفيما يلي نذكر بعض المجالس المبغوضة لله تعالى:
أولاً: مجالس الاستهزاء بالدين ورموزه
قال الله تعالى: {وقد نَزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلُهم إنّ الله جامعُ المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} (النساء 140). وقال سبحانه: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره وإما يُنسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون} (الأنعام 68- 69).
ثانياً: مجالس الكذب على الله ورسوله
في الحديث عن الامام الصادق(ع): "ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلساً (هكذا) فيه مَنْ يَصفُ لسانَه كذباً في فتياه.."، أي مجلس المفتي الكاذب، كالكثير من علماء السلطة الذين يمشون في ركب السلطان ويبررون له تصرفاته.
ثالثاً: مجالس تمجيد أعداء الله
وفي تتمة الحديث الآنف عنه (ص): "... ومجلساً ذِكْرُ أعدائنا فيه جديدٌ وذكرنا فيه رث، ومجلساً فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم" ، أي يهان فيه أعلام الدين ورموزه، وهذا ما أشرنا إليه أولاً.
رابعاً: مجالس المعصية
ومن جملة المجالي المبوضة لله مجالس المعصية والسباب والغيبة.. فعن الإمام الصادق (ع): "من قعد عند سبّاب لأولياء الله فقد عصى الله" ، وفي حديث آخر عن الإمام الباقر(ع): "من قعد في مجلس يُسبّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاب (الانتصار) فلم يفعل ألبسه الله الذل في الدنيا، وعذّبه في الآخرة، وسلبه صالح ما منّ به الله عليه من معرفتنا" ، وقد تقدم حديث الامام الصادق (ع): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلساً ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن" .
ومن أبرز مجالس المعصية مجلس شرب الخمر، فقد حرّم الإسلام الخمرة ودعا إلى مقاطعة شاربها، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "ولا تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر فإنّ العبد لا يدري متى يؤخذ" ، وعلى العموم فإن ثمة قاعدة إسلامية مستفادة من الكتاب والسنة، وخلاصتها: أنّ الله تعالى إذا أحبّ شيئاً فتح كل الأبواب أمامه وشجع عليه وأثاب على مقدماته، وإذا أبغض أمراً أقفل كل النوافذ في وجهه، فضلاً عن الأبواب المؤدية إليه، فهو – مثلاً- عندما حرّم شرب الخمر فإنه سدّ كل السبل المؤدية إلى انتاج الخمر وتداوله، لذا فإنه حرّم زراعة شجرة الخمر، وكذلك حرّم عصرها، والجلوس على مائدتها.. وأهميّة هذا الإجراء الأخير أنّه يخلق حاجزاً نفسياً تجاه الحرام، بينما الجلوس على مائدة الخمر أو عصره أو تقديمه للآخرين كفيل مع الوقت بإسقاط هذا الحاجز النفسي تجاهها،مما قد ينجر إلى ارتكاب شربها، ففي الحديث عن زيد بن علي عن آبائه (ع): "قال: لعن رسول الله (ص) الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه" .
ويهمني التنبيه هنا إلى أنّ واحدا من أخطر وأسوأ مجالس المعصية هو مجلس الغيبة التي يتاول أصحابه أعراض الآخرين ويأكلون لحومهم، والغيبة في حقيقة الأمر هي آفة المجالس.
خامساً: مجالس المتكبرين والمرائين
إنّ مجالس أصحاب الدنيا الذين لا حديث لهم إلاّ حديث المال والجاه والتكاثر بالأولاد، هي مجالس مذمومة ومبغوضة لله تعالى، لأنّها مجالس لا تفوح منها سوى رائحة التكبر والغرور مما يميت القلب وينسي الرب تعالى، وهذا هو ما يرمي إليه النبي (ص) - فيما يروى عنه - قال: "أربع يمتن القلب: إلى أن قال: ومجالسة الموتى! فقيل يا رسول الله (ص): وما الموتى؟ قال: كل غني مترف" .
وعلى العموم فإنّ من المناسب للإنسان أن يُصاحب أو يجالس من هم دونه في الوضع المالي، لأن ذلك مدعاة لاكتشاف عظيم النعمة الإلهية عليه، كما أنّه مدعاة لشكر الله تعالى، يروى أن سليمان كان إذا رأى مسكيناً جلس إليه وقال: "مسكين جالس مسكيناً" ، وفي الحديث: سئل رسول الله (ص): "أين الله؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم" .
ونحن لا نقصد بهذه الدعوى إلى تكريس نوع من الطبقية في المجالس ليكون للأغنياء مجالسهم وللفقراء مجالسهم، كلا فهذا أمر مذموم بكل تأكيد، بل إننا ندعو إلى كسر الحواجز الطبقية، فالغني يجدر به أن يخرج من طبقة الأغنياء ليجالس الفقراء ويزورهم، ويحسن به أن يصطحب معه أبناءه، ليشعروا بنعمة الله عليهم، وليتحسس هو وأولاده معنى الفقر والجوع والألم.
سادساً: المجالس المختلطة
والمجالس المختلطة هي التي يجتمع فيها الرجال والنساء، فما هو الموقف من هذه المجالس؟
والجواب: إنّ اختلاط الجنسين ليس محرماً في الإسلام إذا روعيت فيه الشروط التالية:
1- أن لا يكون الاختلاط مريباً ومثاراً للشبهة ومدخلاً للشيطان، كما في حالة اختلاء الرجل والأنثى، فإنه ما اختلى رجل وامرأة "إلاّ كان الشيطان ثالثهما"، كما ورد في الحديث النبوي الشريف" .
ولا يقولن قائل: أنا واثق من نفسي، فإذا اختليت بامرأة فلن تتحرك غريزتي ولن أقع في المعصية!
فإن الجواب على هذا الكلام هو أنّ الإسلام يراعي في تشريعاته النوع البشري، ولا يشرّع للحالات الفردية الخاصة والاستثنائية، على أنّه ما أكثر المزاعم بالثقة بالنفس، لكن الواقع خلاف ذلك، ولذا أراد الإسلام سدّ الذرائع على هذا الصعيد، ونذكّر بما قلناه قبل قليل من أنّ الإسلام إذا أبغض شيئاً حاول سد كل المنافذ الموصلة إليه، وهو حيث حرّم الزنا والارتباط بالمرأة دون عقد شرعي، فقد عمل على سدّ كل المنافذ المؤدية إليه من اختلاط الرجل بالمرأة، أو المماسة والمصافحة، أو النظر بشهوة وريبة..
2- اجتناب المرأة للتبرج، قال تعلى: {غير متبرجات بزينة} (النور: 60)، وقال أيضا: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (الأحزاب: 34)، نعم إذا كانت المتبرجة لا تنتهي إذا نهيّت فلا يحرم على الرجل التواجد معها في مجلس واحد.
3- مراعاة الحشمة والعفة وعدم الابتعاد عن حدود اللياقة والأخلاق، فمجالس الرقص والغناء والمجون التي يجتمع فيها الجنسان كلها مجالس محرمة ويبغضها الله تعالى، وكذلك لا بدّ من اجتناب الكلام المثير، قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} (الأحزاب 33).
سابعاً: مجالس الفضوليين
من المجالس التي يكرهها الإسلام وإن لم يصل الأمر فيها إلى حد التحريم: مجالس الفضوليين، وهي مجالس اولئك الأشخاص الذين لا ينتفع الإنسان بمجالستهم شيئاً لا في دين ولا في علم ولا ثقافة، فهي مجالس للترف واللهو والمزاح الثقيل والضحك العالي وشرب الدخان و"الأراكيل". أجل إنّ الإسلام لم يحرّم المزاح الخفيف ولا اللهو البريء، لأنه كما يقول علي(ع): "إنّ القلوب تمل كما تمل الأبدان فتخيروا لها طرائق الحكمة" وقال(ع): "روحّوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلب إذا أكره عمى". لكن على الإنسان أن يتجاوز الحدود الشرعية، فلكل شيء حدوده، فللمزاح حدوده، وكذلك للضحك، ومن الحدود التي ينبغي مراعاتها: عدم استهلاك الوقت في أمثال هذه المجالس، بحيث يصبح همّ الإنسان وشغله الشاغل هو ارتياد مجالس الضحك واللهو والمزاح، بعيداً عن مسوؤلياته الاجتماعية وواجباته الدينية.. ويروى أنّه دخل رسول الله (ص) إلى المسجد فوجد جماعة متجمعين حول رجل فسأل: من هذا؟ فقالوا: علامة، فقال: وما العلامة؟ قالوا: إنه يعلم بأنساب العرب وأيام الجاهلية وبالأشعار العربية، فقال النبي(ص): "ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه ثم قال: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاهن فضل" ، وما أكثر الفضول في مجالسنا وفي أحاديثنا!