ثم اختلفوا حول الفرق بين الإسلام والإيمان، فقال بعضهم أن الإيمان هو التصديق القلبي وأن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كالعبادات. بينما مال الأغلبية للقول بأن الإيمان والإسلام هو شيء واحد.
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا: "الإسلام" لله و"الإيمان" برسالته
إلا أن نظرة معمقة للقرآن تُظهر أن الكتاب يتحدث عن مستويين مختلفين عندما يستعمل مصطلحات "الإسلام" و"المسلمين" من جهة، و"الإيمان" و"المؤمنين" من جهة أخرى رغم أنهم يلتقون عند بعض المحاور: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.... أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً "، سورة الأحزاب، آية 35.
يعتقد البروفيسور فريد دونر، عالم في الإسلاميات، وأستاذ تاريخ الشرق الأدنى في جامعة شيكاغو، في كتابه "محمد والمؤمنون: في أصول الإسلام"، أنّ "جماعة المؤمنين" في العصر النبوي لم تكن تعي بأنها ديانة مستقلة وإنما تشمل أيضاً اليهود والمسيحيين.
وأن مفهوم الإسلام كدين مستقل قد تبلور في العصر الأموي خاصة في عهد عبدالملك بن مروان، الذي "شجع المؤمنين الآتين من الجزيرة العربية على إعادة تعريف أنفسهم وتحديد شخصيتهم. من هنا، تغير معنى صفة "مؤمن" الذي كان حتى ذلك الوقت يشمل كل المؤمنين بالله الواحد لينحصر بصورة متزايدة بأولئك الذين يتبعون الشريعة الإسلامية. عندها بدأ نوع من التمايز يظهر بين المؤمنين بالقرآن الكريم والمؤمنين بغيره من الكتب السماوية. وهكذا، أخذ تعبير "مسلم" يصبح أكثر تداولاً لوصف أتباع الإسلام مستقلاً عن الأديان التوحيدية الأخرى المنتشرة في أرض الفتوحات"، كما أورد محمود حداد في مراجعته لكتاب دونر (الحياة، 2010).
فما مدى صحة نظريته؟ وهل الإيمان والإسلام شيء واحد كما يظن معظم المسلمين؟ ستحاول المقالة اكتشاف الفرق بين الإسلام والإيمان من خلال الاعتماد على الآيات القرآنية.
الإسلام قبل محمد
يرد لفظ "الإسلام" و"المسلمين" في الكثير من الآيات التي تتناول قصص الأنبياء الذين أُرسلوا قبل النبي الأخير. فمثلاً في سورة البقرة: "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون" (133).
وأيضاً بالنسبة لموسى، "قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين"، سورة يونس، آية 84، وكذلك الحال بالنسبة لفرعون موسى "حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل، وأنا من المسلمين"، سورة يونس، آية 90. وأيضاً بالنسبة للمسيح: " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنّا مسلمون"، سورة آل عمران، آية 52.
وكذلك الأمر بالنسبة لكل قصص الأنبياء،حيث يحرص القرآن على توصيف دينهم ودين أتباعهم بأنه الإسلام، بالرغم من أنه قد يطلق عليهم أحياناً اسماً محدداً مثل "أهل الكتاب" أو "اليهود" أو "النصارى" لتمييزهم كمجموعة محددة، إلا أنه ما يلبث أن يثبت بأنهم في الأصل مسلمون.
ولكن إن كان تحول مصطلح "المؤمنين" إلى مسمى "المسلمين" قد حدث بفترة متأخرة من أجل التركيز على محورية محمد حسبما يعتقد دونر، والانفصال عن المؤمنين الآخرين من أهل الكتاب، فكيف يُمكن تفسير حرص القرآن على تأكيد "إسلامية" الأنبياء السابقين وأتباعهم؟ وإن كان الإسلام يشمل الاعتقاد بأن محمداً رسول الله كما يشمل العبادات الشعائرية،بحسب ما يعتقده معظم أتباع النبوة الأخيرة، فكيف يكون هؤلاء الأنبياء وأتباعهم مسلمين مع أنهم لم يروا محمداً ولم يعرفوا القرآن كما لم يتبعوا الشريعة الأخيرة؟
قد يقول قائل بأن شروط الإسلام تتغير من نبي لآخر، إذاً ما هو الشرط الأساسي الثابت والمشترك بين تلك الدعوات النبوية، والذي بموجبه يصبح المرء مسلماً بالحد الأدنى؟
الإسلام هو الشهادة الأولى فقط
إذا نظرنا إلى سياقات وصف الإسلام في الآيات الواردة أعلاه وفي جميع قصص الأنبياء وغيرها من الآيات، فإننا نجد أن الإسلام يأتي دائماً بمعنى التوحيد المطلق حصراً، أي الإيمان الأساسي والأولي بتوحيد الربوبية والألوهية، ونبذ الشرك بالله الذي يشمل عبادة وتقديس الأصنام والأنبياء والرسل ورجال الدين، ولا يشمل مفهوم الإسلام في التصور القرآني تصديق نبي محدد ولا اتباع كتاب ديني بعينه، ولا أتباع شريعة واحدة.
وهذا ما توضحه الآيات التالية من سورة آل عمران: "يا أهل الكتاب لِمَ تُحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، أفلا تعقلون؟ .... ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين". ولو كان وصف "المسلم" يشمل بالضرورة التصديق بمحمد والقرآن الكريم، لما صحّ ذلك أيضاً عن النبي إبراهيم، لأن القرآن لم ينزل إلا بعد إبراهيم والتوراة والإنجيل.
إنما توضّح الآيات بأنه كان مسلماً، أي موحداً لله توحيداً مطلقاً، وهذا هو الإسلام الذي هو نقيض حالة "الشرك" بالله. بل أيضاً وفق التصور القرآني، نستنتج أن "دين الله" الذي هو "الإسلام" ليس حصراً على البشر: "أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض"، سورة آل عمران، آية 83، فهل يعني أن الملائكة وسائر الكائنات تؤمن بالأنبياء والكتب السماوية وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت؟ قطعاً لا، إنما هذا يعني أنها مدركة للخالق الواحد.
"قل إنما يوحى إليّ أن إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون؟" سورة الأنبياء، الآية 108، وهذه الآية تفسر نفسها بنفسها وتوضح مجدداً أن الإسلام هو الإعتقاد بالإله الواحد كما تتطابق مع آية أخرى "شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الإسلام"، سورة آل عمران، الآية 19.
النجاة بالتوحيد والعمل الصالح
ومن هذا المنطلق، إذا أتينا إلى آية: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، سورة آل عمران، الآية 2، يُصبح لزاماً علينا إعادة تعريفها على غير ما فهمه الناس من أن المقصود هو وجوب اتباع الشريعة المحمدية حصراً . فمصطلح الإسلام كما رأينا ليس شريعة إنما هو اعتقاد توحيدي، ويُمكن الوصول إليه مع نبي ومن دون أي نبي، وباتباع رسول ومن دون رسول، بكتاب ديني أو بدونه.
التوحيد المطلق مُتحقق بذاته ومستقل عن منظومة الشرائع، لأنه إدراك ذاتي بسيط منسجم مع الفطرة، على خلاف تقديس الأصنام أو الاعتقاد بتجسد الله أو بالتثليث وغيرها من الأفكار التي تحتاج إلى جهد كبير لإقناع العقل بها ولا يمكن الوصول إليها بتأمل ذاتي من دون التلقي والتعلم من آخرين.
بينما بالإمكان الوصول إلى التوحيد بالقلب أو بالبراهين والأدلة العقلية، ولا يُشترط أن يكون بالتلقي من نبي محدد. في الواقع، القرآن نفسه يُحيل إلى المنطق والطبيعة ويدعو الملحدين والمشركين إلى مراقبتها وتأمل ظواهرها من أجل الوصول إلى توحيد الله وتشكيل تصور صحيح عنه، أي أنه يقبل بإيمان بالله آتٍ من خارج نصوصه.
وللدلالة على اشتمال الإسلام للموحدين على أي شريعة كانوا، يصف القرآن طائفة من أهل الكتاب في العهد النبوي بأنهم كانوا مسلمين من قبل استماعهم للقرآن، أي بدون إيمانهم بمحمد: "وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنّا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين"، سورة القصص، الآية 53. فقد كانوا موحدين أصلاً ثم آمنوا برسالة محمد.
ولأن التوحيد لا يصل إلى مغزاه إلا بوجود مبدأ الميعاد أو القيامة أو الثواب والعقاب، فإننا نجد دائماً الإيمان بالله مقترن باليوم الآخر في النصوص الدينية، مع التركيز على الإحسان والعمل الصالح كشرط وركن أساسي للوصول إلى الله والثواب بعد الموت.
من سورة البقرة: "قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (112)، وفصلت: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين" (33).
إسلام من دون نبي
أما الآية التي احتار المفسرون في إيجاد مخرج منها، هي سورة البقرة، الآية 62: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون". وأما الذين آمنوا، فهم أتباع محمد، قال ابن كثير في تفسيره: "سُميت أمة محمد مؤمنين لأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية".
والذين هادوا هم أتباع موسى والنصارى أتباع المسيح، أما الصابئين فقد اختلُف في الفئة المقصودة منها لأنها كانت تشمل قديماً عدة طوائف موحدة، ولكن ورد في تفسير ابن كثير تصّور مثير ومدهش عنها: "الصابئون أهل دين من الأديان يقولون لا إله إلا الله، ليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي ولا يؤمنون برسول، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي وأصحابه هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم لقولهم لا إله إلا الله".
فعندما جاء المفسرون إلى هذه الآية التي وردت مرتين بصيغة متطابقة، قال معظمهم أنها تعني الأقوام الذين اتبعوا نبيهم وكتابهم وشريعتهم بإحسان في أزمانهم إلى حين مجيء النبي الذي يليه. إلا أن صياغة الآية تفيد الإستمرارية وتشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً في أي مكان وزمان، ولا تفيد ما قاله المفسرون.
لكنهم اضطروا لتبني هذا القول لتعارض ظاهر الآية مع فهمهم للآيات الأخرى كقوله "إن الدين عند الله الإسلام".
فلما ظنوا أن مصطلح الإسلام هو شريعة محمد، اضطروا لدرء التعارض بين الآيات بالقول أن كل إيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح على شريعة محددة يبطل إذا لم يتم اتباع النبي الذي يليه، وبالتالي حكمها منسوخ أو ملغي مع مجيء محمد آخر الأنبياء. ولكن إن فرضنا احتمالية انطباق ذلك على اليهود والنصارى فإنه لا ينطبق على الصابئة لأنهم لا يتبعون نبياً محدداً وليس لديهم ذكر مجيء آخر، إنما مكتفون بتوحيد الله.
وفي واقع الأمر، الآية غير معنيّة أصلاً بالنبوات ولا بالكتب ولا بالشرائع، إنما مهتمة فقط بثلاثة نقاط وهذه هي أركان "الإسلام": الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح. ولو أنهم تبنوا تفسير مصطلح الإسلام على ما بيّنا أعلاه بأنه فقط التوحيد المطلق لله الخالق، لزال التعارض بين الآيات.
فكل هؤلاء الأقوام المذكورون على اختلاف أسماء طوائفهم وأنبيائهم وشرائعهم هم في حقيقة الأمر مسلمون إذا استجابوا للشروط الثلاثة المذكورة، وكلهم موعودون بالثواب إذا آمنوا بالله الواحد والميعاد والعمل الصالح، فهذا هو المستوى الأدنى المطلوب، الذي هو مرحلة تخطي الشرك والكفر والدخول لدائرة الإسلام، وإن لم يصل إلى مرحلة "الإيمان" الذي يتمحور تنظيمياً وحصرياً حول الرسالة المحمدية الأخيرة.
الإسلام كطريقة روحية لا ديانة منظمة
وبالتالي فإن الطوائف اليهودية الإصلاحية غير الصهيونية والمندائيين والجماعات المسيحية المعاصرة التي تنكر التثليث وتؤمن بالتوحيد المطلق هي كلها طوائف إسلامية بالمفهوم القرآني، وكل الأفراد الذين يعتقدون بأن رب العالم واحد أحد غير متجسم لم يلد ولم يولد، ويعتقدون بوجود ثواب وعقاب بعد الموت وبأن العمل الصالح هو الطريق، هم في الحقيقة مسلمون لأنهم شهدوا بأن لا إله إلا الله، بغض النظر على أي ديانة ولدوا وبأي حكيم اقتدوا وأي كتاب اتبعوا.
وكل عالم ومفكر توصّل لوجود خالق ومدبر واحد للكون، وأن الإنسان مسؤول عن أعماله وأن هنالك حساب بعد الموت، فهو مسلم حتى لو لم يؤمن بأي كتاب وبأي نبي.
فمن آمن بالتوحيد المطلق لله واليوم الآخر فكأنه صدّق ما يقارب ثلث القرآن، الذي يتركّز حول هذا المحور، وإن أضاف على اعتقاده الالتزام بالعمل الصالح وترك المنكرات مما عرفه بالفطرة وأجمع عليه البشر، فقد عمل بما يقارب ثلثاً آخر من القرآن أيضاً، الذي يأمر بالخير والعدل والإحسان والمعروف والصدق وتأدية الحقوق ومساعدة الضعيف والوفاء بالعهود والوعود والعقود، ويحرم القتل والزنا والسرقة والظلم والغش والكذب والعنصرية والاعتداء والاستغلال.
سورة الإخلاص، يقال بأنها تساوي ثلث القرآن مع أنها أربع آيات فقط، لأنها اختصار ملخص للتوحيد سورة الإخلاص، تُعتبر بمثابة ثلث القرآن مع أنها أربع آيات فقط، لأنها اختصار ملخص للتوحيد
فمن جمع بين الاعتقاد بالله والآخرة والعمل الصالح فكأنه عمل بثلثي القرآن حتى لو لم يؤمن به.
ولذلك وفي أحد المواقف عندما حدث جدال بين أتباع محمد من جهة والمسيحيين من جهة على خلفية رغبة كل طائفة بضم الأخرى إليها، عرض النبي على بعض أهل الكتاب "حلاً وسطاً" أو "مساحة تلاقي"، وسمى القرآن ذلك الاقتراح "كلمة سواء"، وورد تفسيرها بأنها قول "لا إله إلا الله"، من دون الشهادة بأنه رسول الله: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون"، سورة آل عمران، الآية 64.
أي أنه أقرهم على البقاء على شريعتهم من دون الإيمان بنبوته وكتابه ولكنه دعاهم إلى التلاقي على كلمة لا إله إلا الله، بإجراء إصلاح ديني وتنقية العقيدة ليعودوا إلى التوحيد المطلق (الإسلام) الذي هو أصل دينهم قبل أن يتسرّب إليه بعض العقائد الوثنية كالقول بتأليه بعض الأنبياء والتجسيم والتثليث وتقديس رجال الدين وإشراكهم مع الله.
الإيمان مرحلة أعلى من الإسلام وأكثر تنظيماً
ويظل هنالك جزء قرآني آخر وهو المتمحور حصراً حول المؤمنين والإيمان بالنبي وشريعته وهذا الذي ينقل المسلم من مستوى "الإسلام" إلى مستوى "الإيمان": "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون"، سورة الحجرات، الآيتان 14-15.
ورد في تفسير الطبري عن المفسر ابن زيد (ت. 182 هجرية): "ولكن قولوا أسلمنا: أي دخلنا في السلم وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلا الله". وهاتين الآيتين في غاية الأهمية من حيث التمييز بين مرحلتين اثنتين، وتؤكد ما شرحناه سابقاً: المرحلة الإعتقادية الأولية وهي"الإسلام" للموحدين والمرحلة الأعلى وهي "الإيمان" للذين اتبعوا محمد.
إذ يطلب منهم أن يكتفوا بوصف أنفسهم بالمسلمين بمجرد تسليمهم بوحدانية الله، وألا يصفوا أنفسهم بالمؤمنين، حتى يقتنعوا فعلاً بذلك اقتناعاً تاماً. فالإيمان لا يتطلب فقط شهادة ثانية وهي أن "محمد رسول الله"، إنما يستدعي أيضاً التزاماً بواجبات أخرى كطاعة الله ورسوله وبذل المال والنفس، وهم لم يكونوا قد وصلوا إلى تلك المرحلة.
وما يميز هؤلاء "المؤمنون" أنهم لا يؤمنون فقط بالله واليوم الآخر، إنما يؤمنون بمنظومة أكبر من تلك المنظومة الإسلامية: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، سورة البقرة، الآية 285.
وهكذا نستنتج عدم صحة نظرية دونر ومعظم المسلمين التي تقول أن الإسلام خاص بأتباع النبي الأخير، فقد رأينا أنه قرآنياً وتاريخياً يشمل الموحدين على اختلاف شرائعهم، كما نستنتج عدم صحة فرضيته بقوله بأن جماعة "المؤمنين" في العصر النبوي تشمل أهل الكتاب، إذ لا يمكن أن تشملهم لأنهم لم يؤمنوا بجميع الكتب والأنبياء ولم يطيعوا الرسول، فضلاً عن أن الكثير منهم لم يصل للتوحيد الصحيح الذي هو الجزء الأهم في الإيمان. ولكننا نوافق دونر على قوله بأن جماعة المؤمنين أصبحت تسمى في وقت متأخر جماعة "المسلمين".
وبالفعل فإن القرآن يخاطب أتباع محمد بالمؤمنين أكثر بكثير من مخاطبتهم بالمسلمين، كما يقول دونر، ولذلك سموا أميرهم "أمير المؤمنين" وليس أمير المسلمين. والظاهر أنه حدث تحول في العصر الأموي وأصبح المؤمنون يتسمون بالمسلمين، ولكن ليس للسبب الذي ذكره دونر بناءً على نظريته، وإنما نرجّح أنه أصبح هنالك رغبة بإخراج الموحدين غير المحمديين من الإسلام واحتكاره للمؤمنين، أي أن مساحتي "ألإسلام" و "الإيمان" أصبحتا حكراً على أتباع محمد.
وأن إطلاق القول بأن الإسلام والإيمان شيء واحد قد حدث لأسباب سياسية، فالإسلام بمفهومه المبسط، أي توحيد الله والاعتقاد باليوم الآخر والالتزام بالعمل الصالح، يظل طريقة فردية ولا يبني جماعة عقائدية سياسية، خاصة أن هؤلاء "المسلمون" ينتمون لعدة شرائع ويقتدون بعدة أنبياء، وهذا لا ينفع الإمبراطورية التي تحتاج توحيد التوجهات قدر الإمكان.
وبالتالي أصبح المسلمون بالضرورة مؤمنون، وأصبحت الواجبات المفروضة على المؤمنين كالصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام، مع أنها أركان للإيمان بالرسالة المحمدية وليست شرطاً للإسلام وفق القرآن. يبدو أن دائرة الإسلام قد صغرت كثيراً بعد قرن من وفاة النبي، فضاقت من اتساعها لكل الموحدين حتى غير المحمديين إلى اشتراط الاعتقاد بولاية الإمام علي لدى بعض الطوائف.
على أيه حال، إن تمّ إعادة فتح دائرة الإسلام وفق صيغته القرآنية، وعرضه بشروطه الثلاث (الإيمان فقط بلا إله إلا الله واليوم الآخر والعمل الصالح) وتقديمه على أنه مرحلة إيمانية أولية مقبولة، بغض النظر عن طريقة التوحيد والنبي والكتاب، إلى حين الاقتناع بمستوى ثانٍ وهو "الإيمان" بالرسالة الأخيرة، فإن ذلك سُيحدث بلا شك ثورة كبيرة في عولمة وعلمنة الإسلام والإيمان.
كما سُيسّهل ذلك عملية الإصلاح داخل الأديان والمذاهب وسيبني شبكة قوية من "المسلمين" حول العالم على اختلاف رموزهم وشرائعهم مع حراك فقهي كبير وتسامح أعمق، وسيكون باباً لانفتاح غربي وعالمي أوسع وأسرع وأعمق على الثقافة العربية والإسلامية.