وتؤشّر إيقاعات تَقدُّم الجيوش على جبهة دير الزور إلى وجود تفاهمٍ ضمني بين روسيا وأميركا على أن تؤدّي هذه المعركة إلى وضعِ منطقة غرب الفرات الممتدة من دير الزور و«الميادين» إلى البوكمال على الحدود مع العراق في عهدة روسيا ومعها إيران والنظام السوري، فيما توضع منطقة شمال شرق الفرات في عهدة أميركا مع «قسد» المكوَّنة بستّين في المئة منها من قوات «لجان الحماية الكردية».تترافق عملية تثبيت معالم خريطة تقاسُم النفوذ الأميركي - الروسي في منطقة شرق سوريا مع حصّةٍ لإيران ترعاها روسيا فيها، مع الدعوة الى عقدِ اجتماع «أستانا 6» الاسبوع المقبل المخصّص لتثبيت خرائط النفوذ في الشمال السوري، وذلك انطلاقاً من فتحِ ملفّ حسمِ وضع إدلب ومحافظتها، حيث المهمّة الأساسية التي سيتمّ تداوُلها هي إخراج «جبهة النصرة» منها، وتحديد هوية القوى الإقليمية التي سيكون لها نفوذ على الشمال السوري.
في وضعِها الحالي، تُعتبر إدلب آخرَ محافظة تسيطر عليها المعارضة السورية، وتُمثّل أيضاً مستودعاً يحتوي على ما تبَقّى من كلّ فصائل المعارضة السورية المسلّحة، وهدفُ روسيا في إدلب مزدوج، الأوّل، وقد نجَحت فيه، وهو إقناع أميركا بقتال «النصرة» فيها مثلما كانت قد أقنَعتها بالانتقال من القتال الإعلامي لـ«داعش» إلى القتال الفعلي، بحسب ما تقول المصادر الروسية.
أمّا الثاني فهو الاعتماد على دور إيراني - تركي في ترتيب وضعِ إدلب، يؤدّي إلى منحِ النظام غطاءً سياسياً إقليمياً لضرب فصائل المعارضة زائداً «النصرة» فيها، وذلك على غرار ما حصَل في حلب، على أن تكون خطوة إدلب مدخلاً، تريده أنقرة، لتتشارَك لاحقاً مع إيران، وبغطاء روسي - عربي واسع، بالتعامل مع ما تسمّيه كلّ هذه الأطراف «الخطر الكردي» في سوريا.
ويُتوقّع بكثير من الثقة أن يتكرّر في «أستانا 6» في شأن إدلب ما حدثَ في حلب. آنذاك فاوَض الروس تركيا على المساهمة في استعادة النظام لحلب، في مقابل أن تغضَّ روسيا الطرف عن تنفيذ أنقرة عملية «درع الفرات» داخل المنطقة السورية المحاذية لحدودها، والآن فاوَضت موسكو أنقرة على تغطية استعادة إدلب للنظام، في مقابل أن تساهمَ موسكو في ترتيب حراك ثنائي إيراني ـ تركي لضرب طموحات أكراد سوريا.
المصادر الكردية لا تخفي قلقها من مرحلة ما بعد هزيمة «داعش» وتحرير شمال سوريا من «النصرة» عبر دور تركي - إيراني وموافقة أميركية ومشاركة روسيّة.
والرأي السائد بين الكرد هو أنّ أميركا تستخدمهم عصاً في ضربِ «داعش»، ويَعترفون في حزب الاتّحاد الكردي (جماعة مسلم صالح) بأنّ واشنطن أبرَمت تفاهمات معهم وليس اتّفاقات. ولم يخفِ نائب رئيس التحالف الدولي في العراق وسوريا هذا الأمر، حيث أعلنَ قبل فترة «أنّ تفاهم التحالف الدولي مع كرد سوريا مرحليّ».
وبات واضحاً أنّ اجتماع «أستانا 6» سيترجم التفاهم بين روسيا وتركيا على صفقة إدلب مقابل مستقبل الكرد في سوريا. وفي معلومات لـ«الجمهورية» أنّ هذا الاجتماع الذي سيشارك الإيرانيون والروس والأتراك فيه بصفة ضامنين لإنشاء منطقة خفضِ توتّر في إدلب ومحافظتها، ستُشارك فيه أميركا كمراقب، فيما تجري محاولات روسيّة حالياً لإقناع السعودية بالمشاركة كمراقب أيضاً.
وثمّة رهانٌ على أن تشكّل صفقة إدلب ببُعدها الكردي المضمر، مدخلاً إلى بناء إرهاصات تفاهم سعودي ـ إيراني، وذلك انطلاقاً من الاستثمار في عامل القلق الذي بات ملِحّاً لدى كلّ دول المنطقة - عدا إسرائيل - من طموح الكرد إلى إنشاء دويلة لهم في سوريا.
وبحسب مصادر خليجية فإنّ عنوان الخشية من الخطر الكردي في المنطقة، وفَّر قاعدةَ تلاقٍ موضوعي بين دول الإقليم المتباينة، وخصوصاً بين تركيا وإيران، وأيضاً السعودية التي قال وزير خارجيتها عادل الجبير خلال استقباله نظيرَه الروسي سيرغي لافروف في جدّة نهاية الأسبوع الماضي، إنّ «السعودية مع وحدة التراب السوري»، وهذه عبارة ديبلوماسية تطلَق عادةً للتعبير عن رفضِ طموح الكرد للانفصال في سوريا.
كذلك قال الجبير إنّ المملكة تدعم إنشاءَ مناطقِ خفضِ التوتّر، ما يعني إعطاءَ موافقته على مشروع روسيا لتوسيع المناطق الأربعة لتصبحَ خامسةً بإضافة إدلب إليها.
وتقدّم المعارضة السورية، وخصوصاً «الهيئة العليا للتفاوض» (منصّة السعودية) قراءةً متشائمة لمسار الأزمة السورية سيَعكسها اجتماعَا «أستانا 6» وجولة جنيف المقبلة.
وبحسب المعلومات المسرَّبة من كواليسها الأخيرة في «لقاء الرياض 2» وفي اجتماع غرفة الموك في الأردن مع فصائل البادية السورية، فإنّ القرار الدولي والإقليمي الذي نقِلَ إليها، طلبَ من فصائل المعارضة المسلّحة المدعومة أميركيّاً تجميدَ قتالها لقوات النظام السوري وحصرَ قتالِها بـ«داعش» فقط، على أن يجري هذا الأمر في شرق سوريا تحت قيادة قوات «قسد» الكردية، أمّا في البادية فيَجري في مناطق لا تُعرقل شَقَّ النظامِ طريقَه إلى السُخنة ومن ثمّ إلى دير الزور ومنطقة غرب الفرات، أمّا في الشمال السوري فإنّ مهمتها الوحيدة هي قتال «النصرة»، ما يَعني إشعالَ تلك المنطقة بـ«فتنة بينية» داخل صفوف المعارضة.
وحاولت «هيئة الائتلاف الوطني» أخيراً إطلاقَ مشروع إنشاء جيش تحرير في شرق سوريا يتشكّل من أبناء عشائر المنطقة ويتكفّل بمقاتلة «داعش» في حوض الفرات، لكنّ واشنطن اشترَطت أن يعمل هذا الجيش انطلاقاً من منطقة الشدادة حيث تسيطر «قسد» ويكون تحت قيادتها، الأمر الذي رفضَه التشكيل المعارض الأكبر في تلك المنطقة (مغاوير الثورة) والمسلّح أميركيّاً، لذلك تمَّ إقصاءُ كلّ الفكرة.
وطرَحت «الهيئة العليا للتفاوض» أخيراً تشكيلَ جيشٍ وطني في إدلب يضمّ كلَّ فصائل المعارضة باستثناء «النصرة» بهدف ضربِ الأخيرة ومنعِ تدمير إدلب وإنشاء إدارة مدنية تابعة للمعارضة تُعمَّم في كلّ مناطق خفضِ التوتّر التي تسيطر عليها المعارضة، لكنّ «النصرة» نجَحت في تعطيل هذا المشروع، ما يعني أنّ إدلب ذاهبة إلى خيار ترتيب مستقبلها في «أستانا 6» من دون أن يكون للمعارضة المسلحة السورية سوى دورِ الشاهد على إعادتها إلى حضن النظام بغطاء تركي وبمشاركة إيرانية.