انقلب الانتصار الذي حققه الجيش اللبناني على تنظيم داعش في جرود القاع ورأس بعلبك شرقي لبنان إلى تباعد في المواقف بين القوى السياسية في هذا البلد جراء ما كشفت عنه هذه المعركة من معطيات بشأن مصير العسكريين المختطفين وما واكب العملية من إثارة لملفات هي محل خلاف بين تلك القوى ومنها العلاقة مع دمشق.
ووسط حداد عام شيّع اللبنانيون الجمعة، جثامين العسكريين العشرة القتلى على يد تنظيم داعش، على وقع تراشق بالتهم حول الأطراف التي قصّرت في إنقاذهم، خاصة وأن الأهالي كان لديهم أمل حتى بداية المعركة في أن يتم تحرير أبنائهم المختطفين منذ نحو ثلاث سنوات أحياء.
وخلال مراسم التشييع الرسمية التي أقيمت صباحا في باحة وزارة الدفاع في اليرزة قرب بيروت بحضور الرؤساء الثلاثة وقائد الجيش، وضع الرئيس اللبناني ميشال عون الأوسمة على نعوش العسكريين، داعيا اللبنانيين إلى “تمتين وحدتهم الوطنية، ونبذ المصالح الضيّقة على حساب مصلحة الوطن والشعب”.
وقال قائد الجيش العماد جوزف عون في كلمة ألقاها خلال التشييع “فرحتنا بالانتصار على الإرهاب تبقى حزينة” بغياب العسكريين.
كارول معلوف: الحكومة ستبقى قائمة ضمن التوازنات والتحالفات الموجودة
وأكد عون أن الجيش سينتشر على طول الحدود الشرقية مع سوريا وسيظل هناك بعد أن استعاد في الآونة الأخيرة السيطرة على جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك، مشددا على أن “المؤسسة العسكرية ستكون على مسافة واحدة من مختلف الأطراف خلال الدفاع عن وطننا”.
وكان العسكريون العشرة قد عثر على رفاتهم في مقبرة جماعية قبل نحو أسبوعين في جرود عرسال بعد مفاوضات حثيثة مع داعش جرت بالتزامن مع انطلاقة المعركة.
وكشف اللواء عباس إبراهيم، مدير الأمن العام اللبناني آنذاك، أن السلطات الأمنية كانت لديها معلومات حول مقتل العسكريين منذ فبراير 2015، لكنها لم تكن تملك الأدلة الكافية لتأكيد ذلك.
ويطالب اليوم أهالي القتلى بضرورة محاسبة كل الأطراف التي قصّرت في إنقاذ العسكريين، فيما انخرطت القوى السياسية في سجالات عقيمة حول المسألة، ما أفقد انتصار الجيش اللبناني على التنظيم الجهادي طعمه.
وقال والد أحد القتلى حسين يوسف، وكان من أبرز المتحدثين باسم أهالي العسكريين منذ خطفهم صيف العام 2014، “أكثر من شخص وطرف.. هم قادرون على أن يساعدونا على كشف الحقيقة لنحاسب كل إنسان ظلم العسكريين”.
ومسألة العسكريين القتلى ليست الوحيدة التي تلقي بظلال قاتمة على انتصار الجيش اللبناني، فهناك تدخل حزب الله الذي يتهمه الكثير بسرقة هذا الإنجاز، وعدم احترام إرادة السلطة السياسية بأن يكون الجيش الطرف الوحيد من يتولى دفة العملية العسكرية.
ومنذ بدء المعركة ضد داعش في 19 أغسطس الماضي حرص الحزب وإعلامه على التسويق أنه يتقدم الصفوف الأولى في هذه المعركة برفقة الجيشين اللبناني والسوري.
وكان الحزب أول من بادر بالكشف عن مفاوضات تجري مع التنظيم الجهادي والتي انتهت بصفقة رعاها الحزب تقضي بترحيل عناصر داعش إلى محافظة دير الزور، مقابل الكشف عن مصير العسكريين، وإطلاق سراح أسرى من الحزب وجثثا لمقاتلين تابعين للأخير ولإيران مدفونين لدى التنظيم الجهادي.
وقد أثارت هذه الصفقة غضبا عارما في لبنان، وخاصة في صفوف أهالي العسكريين الذين رأوا في الأمر خيانة لدماء أبنائهم.
ويقول محللون إن الحزب أراد من خلال سرقة انتصار الجيش اللبناني، القول إنه الطرف الأقوى والمسيطر على لبنان، وأن حدود نفوذه تتخطى هذا البلد، وأن على النخبة السياسية اللبنانية أن تعي ذلك وأن تستجيب لسلطته والتسليم بانحياز لبنان إلى محور إقليمي بعينه تقوده إيران.
وفي هذا الإطار يوضح الباحث السياسي اللبناني مكرم رباح لـ”العرب” أن “صفقة تهريب داعش والسرقة الموصوفة لانتصار الجيش هي تأكيد إضافي لكافة المشككين بأن أجندة حزب الله إقليمية”.
وأشار رباح إلى أن استعراض الحزب لعضلاته في الفترة الأخيرة لم يقتصر فقط على معارك الجرود ويستشهد بإقدام وزراء الحزب في حكومة سعد الحريري على زيارة دمشق رغم عدم وجود أي إجماع حول المسألة، وذلك في سياق سعيه لفرض أمر التطبيع مع النظام السوري بعد أن ثبت له أن الاقتصار على الدعوات لن تأتي أكلها.
وشنت قوى سياسية لبنانية هجوما لاذعا على حزب الله، مؤكدة أن الأخيرة تجاوز جميع الخطوط الحمراء. وتصدر صف المنتقدين حزب القوات اللبنانية الذي اعتبر أن سياسات حزب الله باتت تشكل تهديدا لسيادة لبنان، وضربا للتوافق الذي تحقق بوصول ميشال عون إلى سدة الرئاسة، لافتين إلى أن الحزب يسعى لجر البلاد بالقوة إلى محور إيران.
مكرم رباح: سرقة انتصار الجيش تأكيد للمشككين بأن أجندة حزب الله إقليمية
وذهبت القوات إلى القول على لسان وزير الشؤون الاجتماعية بيار أبوعاصي إنه “من غير المسموح التصرف بشكل أحادي وجرّ الحكومة إلى محور سياسي لئلا تكون لكل فعل ردة فعل مما يعرض الاستقرار الحكومي للاهتزاز”.
وشدد أبوعاصي على أنه من أسس تكوين الحكومة النأي بالنفس ويجب عدم استدراجها إلى أجندات خارجية لا تتلاءم وأسس تشكيلها.
ويرى مراقبون أن التجاذبات السياسية التي تشهدها الساحة اللبنانية هذه الأيام يمكن تشبيهها “بعاصفة في فنجان”، حيث أنها لن تقود بمطلق الأحوال إلى انهيار الحكومة التي هي أقرب اليوم لحكومة تصريف أعمال لحين إجراء الانتخابات النيابية.
ويشير هؤلاء إلى أن حزب الله ورغم تضخم الأنا السياسية والعسكرية لديه، فإنه ليس في وارد المغامرة بنسف العهد القائم لعدة أسباب من بينها تحالفه مع الرئيس ميشال عون وأيضا لحاجته الماسة لغطاء سياسي توفره حاليا حكومة الحريري في ظل استمرار انخراطه في معارك إيران الإقليمية.
بالمقابل فإن القوى المناهضة لحزب الله في لبنان ليس لديها من خيار سوى الحفاظ على “الستاتيكو” القائم، بما يعني ذلك استمرار الحكومة التي تضم الحزب، رغم تحذيرات القوى الإقليمية وعلى رأسها السعودية من أن عدم رفع الغطاء عن “حزب الشيطان” ومواجهته لن يقودا إلى استقرار لبنان والمنطقة والعالم.
وفي هذا السياق تقول كارول معلوف لـ”العرب” إن الحكومة ستبقى قائمة ضمن التوازنات والتحالفات الموجودة. فقط إذا وجهت إسرائيل ضربة لحزب الله عندها يمكن أن نشهد انهيارها. وعدا ذلك هناك توافق على عدم الخوض في ملفات غير معيشية في هذه الحكومة لتمرير الوقت وصولا إلى الاستحقاق الانتخابي النيابي.