كان أحد الألقاب التي أُسبغت على كيم إيل سونغ، مؤسّس كوريا الشماليّة وجدّ حاكمها الحاليّ كيم جونغ أون، «الزعيم المحبوب من 40 مليون كوريّ». وكان رقم الأربعين مليوناً يدلّ على عدد سكّان الكوريّتين في الستينات. لكنْ حين ظهر أوّل خلاف سياسيّ بين أنور السادات والاتّحاد السوفياتيّ، وقرّر السادات أن يزعج موسكو من دون أن يقطع معها (وهو ما فعله لاحقاً)، اعتقل 17 طالباً مصريّاً بتهمة أنّهم «عملاء لكوريا الشماليّة». هكذا تولّت النكتة المصريّة تعديل لقب كيم إيل سونغ الذي صار «الزعيم المحبوب من 40 مليون كوريّ و17 طالباً مصريّاً».
الحفيد كيم جونغ أون حظّه أكبر من حظّ جدّه. إنّه محبوب من الممانعين العرب، وهم طبعاً أكثر من 17، يحلّ في قلوبهم حيث حلّ الراحل الفنزويلّيّ هوغو شافيز. إنّه، اليوم، الرجل الذي «يتحدّى» أميركا.
حسناً، لا بأس ببعض الإيضاح: فدونالد ترامب ليس سياسيّاً يمكن الدفاع عنه. إنّه لا يفضل كيم جونغ أون حين يقتصر الأمر على مقارنة بين الشخصيّتين. واليوم باتت كلفة ترامب، لا على بلده فحسب، بل على العالم بأسره، باهظة جدّاً. وأغلب الظنّ أنّ تعاطيه الأخرق مع المشكلة الكوريّة الشماليّة قسط ضخم من أقساط هذه الكلفة.
مع هذا، يبدو غريباً هذا العشق لكيم جونغ أون، وارث السلطة المطلقة عن أبيه الذي ورثها عن جدّه. ومثل كيم، دولته الكوريّة الشماليّة التي هي راسب من رواسب الحرب الباردة، لم تتأثّر مذّاك بالتحوّلات التي شهدتها الحرب الباردة نفسها، ولا بالتحوّلات التي تلت تلك الحرب. وأغلب الظنّ أنّ ازدهار كوريا الشماليّة في أخبار يومنا هذا دلالة على تدهور أوضاع العالم وأوضاع سلمه وصحّته. فهذه الدولة الكارثة مثل البوم الذي يستدعيه الخراب. تزدهر بازدهاره.
وهي دولة كارثة في كلّ شيء ما عدا إنتاج القنابل الذريّة، ومؤخّراً الهيدروجينيّة. كارثة في حرّيّاتها وفي اقتصادها وفي تعليمها وفي أيّ مستوى كان. والعودة إلى الأرقام سهلة دائماً. لكنّ كوريا كيم هي، قبل كلّ شيء وبعده، كارثة في تجويع شعبها وتحويله إلى روبوتات تبايع وتؤيّد وتدين وتندّد وتهتف وتتوعّد...
على أنّ الصلات القرابيّة متينة: فحافظ الأسد تأثّر بالتجربة الكوريّة الشماليّة في بنائه التنظيمات الحزبيّة الشبابيّة في سوريّة. واليوم، هناك مراقبون يقولون إنّ المرشد علي خامنئي قد يحذو حذو السياسات النوويّة لكوريا الشماليّة في حال انهيار الاتّفاق حول الملفّ النوويّ.
وروح هذه القرابة هي التالية: ليس هناك ما يهمّ سوى القنابل والصواريخ. أمّا كيف يُحكم المواطنون. أكلهم. علمهم. صحّتهم. حالتهم الذهنيّة... هذه توافه في نظر أصحاب الوعي السلاحيّ. المهمّ القدرة على إنتاج القنابل والصواريخ ولو ببطون خالية وأقدام حافية وعزلة عن العالم. لماذا؟ كي نتحدّى أميركا.
والحال أنّ هذا الموقف من كيم أعلى تعابير البؤس والانحطاط اللذين يصيبان الأفكار القوميّة في زمننا، أتلفّحت بالدين أم تلفّحت باليسار. إنّه يعلن ارتداد القوميّة إلى قَبَليّة ترى العالم على شكل داحس والغبراء. هذا التعرّي من كلّ اعتبار إلاّ اعتبار السلاح لـ «تحدّي أميركا» بات، في هذه البيئة، مرضاً فعليّاً يستدعي المعالجة.
مع هذا، فالخبر الجيّد أنّ الناس، الذين باتوا أشدّ اطّلاعاً على مجريات العالم، باتوا أكثر وعياً، وأقلّ قابليّة للانخداع بمعتوه ككيم وبنموذج ككوريا الشماليّة... وهذا مع أنّ الوعي الجديد يقتصر على قضايا بعيدة لا تمسّ جماعاتهم وطوائفهم مباشرة.
أمّا في بعض بيئات الممانعة، فصار الحبيب كيم جونغ أون «أبو علي كيم» لمجرّد أنّه «يتحدّى» أميركا. وكان هتلر قد حظي قبله باللقب نفسه لأنّه «تحدّى» بريطانيا. والآن شبعت بطون الديدان ممّا تبقّى من هتلر. وبريطانيا تبقى بريطانيا. وأميركا تبقى أميركا. تبقيان بسيّئات كثيرة فيهما لكنْ أيضاً بإنجازات كبرى قد يكون أهمّها الحديث عن تلك السيّئات، والاتّساع حتّى لمن يحبّون «العدوّ» كيم، والضحك عليه وعليهم، وعلى حكّامهم أيضاً. هنا، تمضي الحياة بالصالح فيها والطالح، بسيولتها، بقدرتها على الضحك واللعب. هناك الموت.