دموع وآمال، توحد لبنان الدولة والشعب والمؤسسات، في حفل الوداع الأخير، لشهداء الجيش اللبناني العشرة، الذين سقطوا غيلة على ايدي تنظيم «داعش» بعد خطفهم، وتصفيتهم جسدياً، لاحقاً، في عملية «إرهابية»، أدت إلى معركة «فجر الجرود» التي طردت عناصر التنظيم من الجرود اللبنانية وسائر العناصر المسلحة الشبيهة بهذا التنظيم الارهابي.
توحد لبنان برئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة وخلفهم المؤسسات الحكومية والأمنية، وعائلات وذوي الشهداء في واحدة من ابهى عناصر الوحدة، والاحتضان والالتفاف حول علم البلاد وجيشه الواحد الموحّد.
فمن وزارة الدفاع في اليرزة إلى خيمة الشهداء في ساحة الشهداء وسط بيروت إلى بلدات الجنود الشهداء في البقاع والجبل والشمال، تحوّلت الأمكنة إلى ساحات شرف، ولفت النعوش بالاعلام اللبنانية واوسمة الاعتزاز والافتخار، وتعالت الأمهات والآباء على الجراح، فإذا الجنائز تتحوّل إلى اعراس اعتزاز وافتخار، بأبناء الوطن والجيش الذين ماتوا ليحيا لبنان.
وسط حداد عام وتنكيس الاعلام، وإقفال رسمي للادارات والمؤسسات دفنت الاجساد الطاهرة، لكن القضية التي استشهدوا من أجلها بقيت وستبقى حيّة..
ولئن كان الرئيس ميشال عون أكّد في الاحتفال الصباحي ان دماء شهداء الجيش أمانة حتى جلاء الحقيقة، فإن الرئيس الحريري اعتبر ان التحقيق الذي طلب الرئيس عون اجراءه لا خلفيات انتقامية أو كيدية له، بل يهدف إلى معرفة حقيقة ما حصل، ومن غير الجائز استباق النتائج أو توجيه الاتهامات واستغلال ذلك في السياسة.
ويغادر الرئيس الحريري في الساعات المقبلة إلى روسيا الاتحادية، حيث سيلتقي الاثنين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي (مقر اقامته) على البحر الأسود.
وفي إطار سياسي، له صلة بالوضع الإقليمي، صعّد وزير الدولة لشؤون الخليج في المملكة العربية السعودية ثامر السبهان ضد إيران وحزب الله.
وقال السبهان في تغريدة جديدة له: «الارهاب والتطرف في العالم منبعه إيران وابنها البكر حزب الشيطان وكما تعامل العالم مع داعش لا بدّ التعامل مع منابعه، شعوبنا بحاجة للسلام والأمن».
ردّ سلام
على ان كلمة الرئيس عون في مراسم التشييع الرسمي، عن «غموض مواقف المسؤولين» في ذلك اليوم المشؤوم الذي خطف فيه العسكريون الشهداء، والتي سببت جراحاً «في جسم الوطن»، لم تمر من دون ردّ مدوي للرئيس تمام سلام الذي كان التزم الصمت طيلة المرحلة التي تلت عملية «فجر الجرود» «احتراماً لأرواح الشهداء العسكريين وآلام عائلاتهم»، وحرصاً منه على عدم الانجرار إلى مناكفات سياسية والمشاركة في لعبة تصفية حسابات في مرحلة، وصفها الرئيس سلام في بيانه بأنها كانت من أصعب المراحل في تاريخ الجمهورية.
وأوضح سلام في رده ان موقف «حكومة المصلحة الوطنية» التي رأسها في فترة الفراغ الرئاسي، لم يكن غامضاً على الإطلاق بل كان واضحاً وضوح الشمس، ويتلخص في وجوب العمل على تحرير العسكريين المخطوفين بكل الإمكانات المتاحة، مع الحرص في الوقت نفسه على أرواح أبناء بلدة عرسال صوناً للاستقرار وحماية للسلم الأهلي، فيما الغموض الذي أشار إليه الرئيس عون يصح لوصف مواقف وادوار القوة السياسية التي عرقلت دورة الحياة وعطلت مصالح العباد على مدى ثلاث سنوات، والتي اجازت لنفسها إطلاق التهم جزافاً في كل الاتجاهات.
غير ان سلام الذي أعلن ضم صوته إلى صوت الرئيس عون لجهة ضرورة جلاء كل الحقائق، دعا إلى فتح التحقيق على مصراعيه، وإلى رفع السرية عن محاضر جلسات مجلس الوزراء، ليتسنى للبنانيين، وفي مقدمتهم عائلات الشهداء الاطلاع عليها، حتى لا تصير اضاليل اليوم وكأنها حقائق الأمس.
وقال ان «من حق اللبنانيين ان يعرفوا طبيعة الوقائع الميدانية في عرسال وجوارها يومذاك، وما هي مواقف من يتاجرون اليوم بأرواح الشهداء، ومن حقهم ان يعرفوا من أيد التفاوض مع الارهابيين الخاطفين ولماذا ومن رفضه ولماذا، ومن احبط المساعي التي قامت بها هيئة العلماء المسلمين وغيرها ولماذا».
وشدّد على ان الأجواء السلبية المفتعلة داخل مجلس الوزراء في تلك المرحلة لم تؤثر على الإطلاق على القوى العسكرية والأمنية، ولا على صلابة القيادة العسكرية التي كانت دائماً تتمتع بالجهوزية الكاملة، ولم تقصر في بذل أي جهد في معركة مواجهة الإرهاب في الداخل وعلى الحدود وتحرير العسكريين المخطوفين.
المجلس الأعلى للدفاع
إلى ذلك، أوضحت مصادر مطلعة على اجتماع المجلس الأعلى للدفاع انه جرى في خلاله تقييم معركة فجر الجرود ودرس الخطوات اللاحقة، ولا سيما عسكريا لمرحلة ما بعد تحرير جرود رأس بعلبك والقاع من الارهابيين، واصفة النقاش الذي دار بالجيد.
وقالت المصادر ان الاجتماع توقف عند سلسلة مسائل تتصل بالاطاحة بهذه المعركة وخطة عمل المرحلة المقبلة، وفي هذا السياق، أفادت ان قائد الجيش العماد جوزف عون قدم تقريرا مفصلا عن العملية العسكرية التي جرت وصولا الى التفاوض، عارضا للصعوبات التي واجهها العسكريون ولا سيما مشكلة الألغام التي زرعت ما قد استدعى العمل على فتح طرقات جديدة، وهو ما قد اطال مرحلة الحسم العسكري، فيما تولى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم شرح مسألة التفاوض.
وكشفت ان نقاشا موسعا دار حول الحاجة إلى تجهيزات جديدة للجيش في ضوء الإجراءات التي ستتخذ لاحقا، ومنها موضوع جهوزية الجيش للتمركز على طول مساحة الـ300 كيلومتر مربع التي جرى تحريرها في الأراضي اللبنانية، ومعظم هذه المساحة ذات طبيعة وعرة ولا سيما في فصل الشتاء، الأمر الذي يستدعي إجراءات معينة، وبينها على سبيل المثال بناء ابراج على غرار الابراج التي بناها البريطانيون في الداخل لحماية العسكريين.
وأوضحت انه تمّ الطلب من قيادة الجيش وضع تقرير شامل عن الحاجات للمباشرة بوضع هذه الانشاءات أو التجهيزات قبل فصل الشتاء ولا فإن هناك استحالة لذلك أثناء هذا الفصل.
وقالت ان هناك حاجة ايضا لتعزيز فوج الحدود البرية بالعتاد والعناصر الأمر الذي سيكون مناط تقديره لقيادة الجيش.
ولفتت المصادر ايضا إلى انه تمّ الطلب إلى جميع الأجهزة الأمنية وضع خطط مرحلية في ما خص الكلفة والأهداف، وذلك في معرض الحديث عن زيادة عديد القوى الأمنية على ان هذه الخطط منها ما هو قصير ومنها ما هو متوسط الأمد وكل ذلك يعود إلى تقدير المؤسسات الأمنية.
وكشفت ان رئيس الجمهورية طلب من قيادة الجيش وضع خطة تتعلق بتكثيف الجهود لضبط التهريب بعدما أصبحت المنطقة المحررة مضبوطة ويتمركز فيها الجيش اللبناني، معلنة ان ذلك سيتم بالتنسيق مع مديرية الجمارك.
ولفتت المصادر المطلعة إلى ان المجتمعين تناولوا موضوع الأمن في البقاع والحاجة إلى منع أي تسلل بقصد القيام بأي تفجير أمني، مشيرة إلى وجود استدارة لمعالجة هذا الموضوع وضبط الأراضي الواسعة في المنطقة والتي ينشر الجيش فيها.
اما ملف أوضاع المخيمات فسيكون في طلب متابعة المدير العام للأمن العام مع الجهات المعنية بالتنسيق مع قيادة الجيش.
وفي ما خص التحقيق بشأن احداث عرسال 2014، فأكدت المصادر ان وزير العدل سليم جريصاتي دُعي للحضور لهذه الغاية، معلنة ان تشديدا برز على عدم توجيه اي اتهام سياسي أو وجود غايات شخصية وراءه، لافتة إلى ان اجراء التحقيق ضروري لاراحة قلوب أهالي الشهداء مثلما قال الرئيس عون واستخلاص العبر.
وقالت ان المجتمعين أكدوا على أهمية وقف الاتهامات المجانية وإنهاء الجدل حول الموضوع وسحبه بالتالي من النقاش السياسي والتركيز على التحقيق القضائي.
وذكرت ان الرئيس عون بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة طلب اجراء التحقيق، وان وزير العدل المكلف بالموضوع سيتابعه مع القضاء العسكري، مؤكدة ان الوزير جريصاتي كان واضحا في قوله ان التحقيق سيتناول العناصر الجرمية لتفادي أي اتهام سياسي.
وعلم من المصادر ذاتها ان النقاش تناول ما طرح مؤخرا عبر وسائل الإعلام من اعمال انتقامية لمقتل العسكريين الشهداء، فكان تأكيد على أهمية معالجة ما جرى لأن المضي في ترويج هذا الكلام يُعيد البلاد إلى أجواء غير سليمة، وأوضحت انه في ظل مناقشة هذا الكلام، اثير التهديد لمسؤولين سابقين بالقتل ولذلك سيطلب من وسائل الإعلام الكف عن الاضاءة على هذا الأمر واحترام مشاعر النّاس، وقالت ان المطلب واضح هو اجراء التحقيق من دون أي تجنٍ، متحدثة عن اقتناء الأجهزة الأمنية لارشيف واقراص مدمجة وافلام تتيح بملاحقة كل من تورط في خطف العسكريين أو وفّر الحماية لعملية الخطف.
على صعيد آخر، توقف المجلس عند أهمية التقيد بالمعايير عند رفع طلبات تطويع تلامذة ضباط للمدرسة الحربية إلى مجلس الوزراء واحترام الكفاءة والأنظمة المرعية الاجراء وعند وضع جداول الترقية الدورية للضباط، وذلك في ضوء ما سُرب مؤخر عمّا يجري في الكلية الحربية.
وعرض وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل وفق المصادر ذاتها لموضوع التمديد لقوات اليونيفل والصعوبات التي واجهت هذا الموضوع في ضوء الضغط الأميركي الذي مورس في مجلس الأمن لتعديل مهام اليونيفل وقد كلفه المجلس رفع شكوى إلى مجلس الأمن بسبب خرق العدو الإسرائيلي الأجواء اللبنانية واستعمالها لقصف الأراضي السورية.
وكان الرئيس عون طلب في مستهل الاجتماع الوقوف دقيقة صمت حدادا على أرواح الشهداء العسكريين في معركة فجر الجرود، وجدّد تهنئة اللبنانيين بالإنجاز الذي تحقق، مشددا على ضرورة عدم مقاربة ما حصل من زاوية سياسية، لا سيما وأن بعض ما قيل خلال مرحلة التحرير وما بعدها كانت له ابعاد سياسية بقصد التقليل من أهمية الإنجاز الذي حققه الجيش.
مراسم التكريم
وكانت مراسم التكريم لوداع الشهداء العشرة الذي اقامته قيادة الجيش في ساحة العلم في وزارة الدفاع، في ظل الحوار الوطني والاحتفال الرسمي الذي اعلنته رئاسة الحكومة، قد بدأت في العاشرة صباحا، بالتزامن مع وقوف اللبنانيين خمس دقائق حدادا على أرواح الشهداء، وسط تنكيس الإعلام اللبنانية على سواري الوزارات والإدارات الرسمية والرئاسات الثلاث، ومع لحظة وصول جثامين الشهداء من المستشفى العسكري في نعوش بيضاء مجللة بالعلم اللبناني، في حضور الرؤساء ميشال عون ونبيه برّي وسعد الحريري ووزير الدفاع يعقوب الصرّاف وقائد الجيش العماد جوزف عون وقادة الأجهزة الأمنية وممثلين عن رؤساء والطوائف والبعثات الدبلوماسية وأهالي الشهداء وعدد من الشخصيات.
وبعد مرور الجثامين العشرة في الباحة الواسعة وأمام المنصة الرئيسية، وإطلاق 21 طلقة تحية للشهداء، وضع الرئيس عون أوسمة الحرب والجرحى ووسام الاستحقاق العسكري على النعوش التي اصطفت امام صور الشهداء، ثم ألقى كلمة عاهد فيها ذويهم بأن «دماء ابنائكم ستبقى أمانة لدينا حتى تحقيق الأهداف التي استشهد ابناؤكم من أجلها وجلاء كل الحقائق».
وأكّد ان الشهداء العسكريين الذين خطفوا وقتلوا على أيدي التنظيمات الإرهابية في جرود السلسلة الشرقية وقفوا في العام 2014 على خطوط الدفاع عن لبنان، غير آبهين بما ظلّل تلك المرحلة من غموض في مواقف المسؤولين سببت جراحاً في حسم الوطن».
وإذ أشار إلى ان الأوطان ليست مستحقة لنا إذا لم نكن مستعدين لصونها بالشهادة، لفت إلى ان شهادة العسكريين المكرّمين هي شهادة للعالم علىما يدفعه لبنان ثمنا لمواجهاته الطويلة مع الإرهاب على مر السنين».
اما العماد عون الذي حيّا الشهداء، فقد أكّد في كلمته انه «على الرغم من أهمية الإنجاز التاريخي الذي حققه الجيش اللبناني فإننا لن ننسى ولن يسهى عن بالنا خلايا الإرهاب السرطانية النائمة»، محذراً من ان هذه الخلايا قد تسعى إلى الانتقام لهزيمتها وطردها بمختلف الأساليب وفي مقدمها «اسلوب الذئاب المنفردة»، وهذا يتطلب منا البقاء متيقظين وحاضرين للتصدي لها والقضاء عليها، كاشفاً بأن الجيش سينتشر من الآن وصاعداً على امتداد الحدود الشرقية للدفاع عنها، ومشدداً على الالتزام التام بالقرار 1701 ومندرجاته كافة والتعاون الأقصى مع القوات الدولية للحفاظ على استقرار الحدود الجنوبية، متعهداً ألا يكون حراس حدود للعدو الغاصب إسرائيل.
وبعد ان أنهى الرئيس عون كلمته، أقيمت مراسم مغادرة جثامين الشهداء ساحة العلم، ونقلت النعوش في مواكب سيّارة مع الاكاليل إلى ساحة رياض الصلح التي احتضنت خيمة الأهالي على مدى السنوات الثلاث الماضية، فاستقبل المواطنون الذين تجمعوا في الساحة، الجثامين بنثر الارز والزهور وإطلاق الزغاريد، قبل ان تشق مواكب الجثامين طريقها شمالاً وبقاعاً إلى القرى والبلدات التي ازدانت بصور الشهداء وعلمي لبنان والجيش، حيث ووريت الثرى في ما يشبه عرس وطني جماعي.