إذا كان النصر في دير الزور إستراتيجياً بالفعل، وهو كذلك على الارجح ، لأنه يطهر أحد آخر الجيوب السورية من تنظيم داعش، فإنه لا يمكن لفريق واحد أن يصادره أو أن يحتكره، حتى ولو كانت المبادرة الى إعلانه جاءت من طرف واحد سارع الى الاحتفاء به، قبل بقية حلفائه وشركائه .
على أرض دير الزور كان هناك تنسيق عسكري عالٍ، كانت هناك غرفة عمليات عسكرية مشتركة تدير المعركة ، وتحدد موعد إطلاق صواريخ كاليبر الروسية من البحر المتوسط ، تمهيدا لموجة غارات الطيران الروسي على مواقع داعش، و تحرك القوات والمليشيات التي تقدمت لفك الحصار عن الوحدة السورية العالقة منذ أكثر من عامين، وتحرير الامتار الاخيرة من المدينة القديمة.
لم تكن الخطة مفاجئة ولا كانت نتيجتها أيضاً. منذ أشهر تم الاتفاق على ان يطهر الاميركيون وحلفاؤهم الرقة، وان يتولى الروس وحلفاؤهم مهمة تطهير دير الزور. كان هناك سباق خفي بين الجانبين على موعد إستعادة كل من المدينتين ، في مهلة زمنية لا تتجاوز نهاية العام الحالي. فازت موسكو بالسباق، لأن دواعش الرقة ما زالوا يعاندون . ولم يعد هناك جدال في أن الكرملين هو الطرف الأقوى والأوثق على غالبية مساحة الارض السورية.
لم يكن تنافساً بالمعنى الدقيق للكلمة. كان ، ولا يزال ، أشبه بإستعراض قوة مزدوج أميركي -روسي ، ضد تنظيم إرهابي يتهاوى على وقع الضربات المتلاحقة التي تأتيه من كل حدب وصوب، ما ساهم في تفكيك خلافته المزعومة وفي تشتيت قواته وتوزع مقاتليه ما بين الفرار والانتحار .. من دون ان يكون بإمكان واشنطن أو موسكو ان تدعي لوحدها أنها هي التي قضت على تلك الظاهرة الارهابية المريعة، أو أن تزعما أنهما خاضتا الحرب معاً.
خلال أيام معدودة ، يمكن ان تعلن واشنطن أنها أيضا أنجزت المهمة في الرقة. عندها ينفتح الباب على سؤال محوري يتحدى الاميركيين والروس في آن واحد: كيف تنتظم مرحلة ما بعد داعش؟ ولمن سيتم إهداء ذلك النصر الاستراتيجي ، لا سيما وأنه ليس هناك في دمشق ولا في بغداد من هو مؤهل لتلقي مثل هذه الهدية الثمينة وإستثمار نتائجها؟
أكراد العراق وسوريا، هم الآن الفئة الاكثر تسرعاً لوراثة الاميركيين والروس على حد سواء. الاستفتاء المقرر في كردستان العراق في 25 أيلول سبتمبر الحالي مؤشر أول، تليه مؤشرات كردية سورية على قرب تحويل الشمال السوري الى منطقة حكم ذاتي يتصل بالمجال العراقي في الشرق ويطمح الى التمدد نحو البحر غرباً. وهي معضلة أميركية أكثر من كونها معضلة روسية، وهي بالتالي تضاف الى رصيد الكرملين الذي لا يمانع أن تنفجر كل يوم مشكلة عراقية او سورية في وجه الاميركيين.
في المحصلة الاستراتيجية ، لا شك أن وضع روسيا صار أفضل، على الرغم من الفارق الكبير بين قوة داعش في دير الزور ، وتجذره في الرقة. لكن النصر الذي تحقق للروس بالامس لا يخلو من تحديات، أهمها ان العالم كله، ومن دون إستثناء، كان ولا يزال يعرض على الكرملين إنتداباً رسمياً وغير محدود على سوريا ، شرط إخراج الايرانيين وفض الشراكة معهم .
كان هذا الشرط مقبولاً ، قبل عام تقريباً، عندما بدا أن العلاقات الاميركية الروسية تدخل في مسار وفاقي جديد ، عززه فوز شريك الكرملين في التجارة السوداء وتبييض الاموال دونالد ترامب بالرئاسة. يومها كان يمكن لروسيا ان تتخلى عن إيران، وأن توفر للاسرائيلييين فرصة تصفية وجودهم السوري. الآن ، وبعد أن إضطربت العلاقات بين واشنطن وموسكو بشكل يعيد الى الاذهان أصعب مراحل الحرب الباردة، بات هذا الخيار مستحيلاً ، وإكتسب الحليف الايراني صفة "الاستراتيجي" حسب تعبير وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف قبل أيام.
لن يختلف الروس والايرانيون على تقاسم هذا النصر ، ولن يترددوا في وضع بعض مكاسبه في حساب شريكهم الاصغر، النظام السوري.. الذي أحجم قبل أسابيع عن إعلان إنتصاره ، لكنه لن يتورع من الآن فصاعداً عن ملاحقة كل "مهزوم" ، سواء كان سورياً أو لبنانياً أو عربياً أو حتى أجنبياً.