كل الأرقام والوقائع تشير الى أن الوضع المالي في حال تراجع منذ سنوات. واستمرار هذا التراجع بالوتيرة نفسها القائمة سيؤدّي حتما الى القعر، وسيفرض على اللبنانيين تغييرا اضافيا في مستويات عيشهم، يتماهى ووضع البلد المستجد.
تُظهر ارقام نمو الدين العام الذي تجاوزالـ77 مليار دولار، تسارعا في وتيرة العجز السنوي، وصل الى عتبة الـ5 مليار دولار في العام 2016. هذا الرقم يُرجّح ان يبلغه نمو الدين في 2017، وربما أكثر في حال تم ردّ قانون الضرائب من قبل المجلس الدستوري، والابقاء على الانفاق الاضافي.
واذا كانت الارقام أظهرت في الفصل الثاني من 2017 ان بند الاجور في الدولة بات يستهلك ما نسبته حوالي 40 في المئة من مجموع ايرادات الخزينة، فان إسقاط قانون الضرائب من دون ابتكار بديل لزيادة الايرادات سوف يرفع هذه النسبة بسبب مصاريف سلسلة الرتب والرواتب. وهذا يعني تسريع موعد السقوط.
هل يعني ذلك ان الانهيار حتمي، وان لا معالجات يمكن ان تجنّب البلد هذا المصير؟
لا شك ان المشكلة في التشخيص، وليست في العلاجات. لأن بعض التوصيفات والتشخيصات، عن جهل أوعن قصد، تشير الى أسباب تقنية والى تفاصيل لاعلاقة لها بلبّ الأزمة. بل ان البعض يذهب بعيدا في تحميل مؤسسات تعمل على حماية الوضع المالي، مسؤولية الأزمة.
وهكذا بدلا من القول، على سبيل المثال، ان الخطوات التي يقوم بها مصرف لبنان منذ سنوات، تساهم في تحصين الوضع المالي، وفي اسوأ الحالات، تأخير الانهيار، فان البعض ينظر الى هذه الخطوات وكأنها احد أسباب الأزمة. وهنا تكمن مشكلة فهم الوضع المالي.
المشكلة ليست في سعر الفوائد التي يدفعها مصرف لبنان لجذب الودائع المصرفية وتكوين احتياطي كبير لحماية سعر صرف الليرة، وضمان استمرار الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع. لكن المشكلة تكمن في سياسة الجهل والتبذير وسرقة المال العام المتّبعة، بسبب الواقع السياسي القائم، والذي جعل الدولة مضطرة الى اقتراض حوالي 5 مليار دولار سنويا، وإلا وقع الانهيار.
من البديهي في مثل هذه الحالة ان تكون اسعار الفوائد مرتفعة نسبيا على العملات الاجنبية، من اجل جذب الاموال، وضمان استمرارية الدولة. هذا مع الاشارة الى ان هذه الاسعار لا تزال أقل بكثير من مستويات اسعار الفوائد التي لديها التصنيف الائتماني نفسه المُعطى للبنان.
واذا كان مصرف لبنان مُتهماً بأنه يدفع اسعار فوائد مرتفعة الى المصارف لايداع الاموال لديه، فان هذه السياسة أملتها ظروف الاقتصاد الراكد. بمعنى آخر، ان المصارف العاجزة عن توظيف الودائع لديها بسبب الركود الاقتصادي، تجد في عروض مصرف لبنان لايداع اموالها لديه متنفسا لها، لئلا تراكم الخسائر على الودائع غير الموظفة، اوتوظفها بعشوائية تحولها لاحقا الى قروض هالكة.
لكن ما لا يشير اليه البعض، هو ان جذب البنك المركزي للودائع، وبالاضافة الى ضمان حماية سعر صرف الليرة، وحماية الفقراء وذوي الدخل المحدود من تبعات تفلّت اسعار العملة الوطنية، فانه يساهم في تحريك الاقتصاد الوطني. اذ يعمد مصرف لبنان الى ضخ قسم من هذه الاموال في الاقتصاد مجددا من خلال دعم القروض.
وهناك نماذج كثيرة عن نجاح هذه السياسة، ليس أقلها ما حققته القروض الاسكانية من استقرار اجتماعي في البلد. كما ان نموذج دعم اقتصاد المعرفة، هو بمثابة برهان مؤكد على نجاح سياسة التحفيز. وقد حقق هذا القطاع الناشئ نموا سريعا وثابتا يصل الى 20 في المئة سنويا. ويبدو مستقبل هذا القطاع مُبشّرا، وسيكون احد المحركات الاساسية لدعم الاقتصاد الوطني.
في النتيجة، التشخيص السليم للأزمة يفرض القول ان المشكلة في الاساس سياسية، ولو ان تداعياتها اقتصادية. والمعالجة ينبغي ان تبدأ من هنا. هذا الأمر يحتاج الى النية والقرار لدى اهل السلطة، وامراء السياسة. وحتى الان، لا النية متوفرة، ولا القرار مُتخذ. وكل ما عدا ذلك من تشخيصات لأسباب الأزمة الاقتصادية، فيه الكثير من الوهم او التضليل.