لا أدري ما سيكون عليه مصير باصات الصحراء التي حملت مقاتلي «داعش» من جرود رأس بعلبك اتجاه البوكمال. فالمصير لم يعد هو المسألة، لأن الهدف الرمزي من منع الطيارات الأمريكية للقافلة من متابعة سيرها قد تحقق. نحن أمام مشهد فيه الكثير من مبالغات الواقع، مشهد الباصات العالقة ومحاولات تأمين الوقود من أجل تشغيل مكيفاتها وسط هذا الحرّ القاتل، ونداءات حزب الله واستغاثاته «الإنسانية» التي تحمّل التحالف الدولي والولايات المتحدة مسؤولية مجزرة محتملة، حققت هدفها الرمزي. وربما كان غياب الصور المباشرة عن هذا المشهد هو ما يعطيه قوة إيحاء إضافية. فالصور التي هزت الضمائر والقلوب في بدايات الثورة السورية، فقدت بريقها وقدرتها الإيحائية بعد مشاهد ضحايا مجزرة الكيميائي في الغوطة الشرقية في آب /أغسطس 2013.
«داعش» الذي نجح في إحداث انقلاب بصري من خلال فيديوهات «إدارة التوحش» التي أتقنها، يجد نفسه اليوم بلا صورة. فالمشهد الداعشي كان يستخدم الضحية من أجل التركيز على جبروت القاتل، أما اليوم وفي غياب الجبروت اختفت الصورة، وصرنا أمام عتمة باهرة تصنعها شمس الصحراء.
الباصات التائهة في الرمل الصحراوي اللامتناهي، صارت رمزا للحاضر السوري برمته. لا أحد من أهل هذه البلاد المنكوبة بالاستبدادات المتقاتلة يمتلك مصيره، المصير صار لعبة في أيدي قوى إقليمية ودولية تتصارع على النفوذ.
لا أدري لِمَ تذكرني الصحراء بهزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وهذا تذكير ليس في مكانه، فشتّان بين شعور العرب بالمهانة والتعاطف مع الجنود المصريين التائهين في سيناء، واللامبالاة العميقة التي نشعر بها أمام مشهد باصات الجهاديين الإرهابيين التائهة، أو أمام نداءات الاستغاثة التي أطلقها أعداؤهم المفترضون.
وبقدر ما كانت رمزية المشهد في سيناء تعبيرا عن العجز العربي والمهانة التي صنعتها جيوش استولت على السلطة تحت ذريعة الثأر لنكبة 1948، فإن رمزية المشهد في الصحراء السورية تقودنا إلى الشعور بمرارات لا حصر لها، ونحن نرى المصير السوري يرسو، بين أيدي الدول الكبرى المتنازعة، على ضرورة الإبقاء على نظام الاستبداد، حتى بعد أن فقد عناصر قوته جميعها.
«الأسد أو لا أحد»، هذا كان شعار النظام بعد اندلاع الثورة الشعبية في سوريا. لقد تحقق الشعار أو هو في طريقه إلى التحقق، لكن من دون أحد عنصري المعادلة. كان رهان النظام الاستبدادي الوراثي هو أن يختار العالم الأسد على اللاأحد، وعندما وصلت المعادلات الدموية إلى تخوم هذا القرار، اكتشفنا أن الأسد صار لا أحد، وان النظام الذي أرعب شعوب سوريا ولبنان وفلسطين نصف قرن، صار ـألعوبة بأيدي مشغليه الأصوليين الإيرانيين، وطابة بين أقدام اللاعبين الروس، ومجرد بيدق على طاولة الشطرنج الدولية.
قلت إن المقارنة مع مشهد 67 لا تجوز، وهذا صحيح، لكن تعالوا نتأمل المصائر قليلا، عام 67 هزمت ثلاثة جيوش عربية، نجح الملك الأردني في تلافي مسؤوليته عن الهزيمة عبر تسليم قيادة الجبهة خلال الحرب للضباط المصريين. أما في مصر فإن تجرّع الهزيمة لم يكن سهلا برغم كاريزما عبد الناصر الهائلة، فكان لا بد من ضحية، وتم تدفيع القائد الحقيقي للجيش المصري المشير عبد الحكيم عامر ثمن الهزيمة عبر عزله ثم «انتحاره» الذي هو الاسم الآخر للإعدام.
في سوريا أخذت الحكاية مسارا آخر، فبدلا من عزل وزير الدفاع الذي قاد الجيش إلى هزيمته المشينة عبر السقوط الغامض للجولان، حدث العكس. نجح الفريق حافظ أسد في عزل رفاقه وقتلهم في السجون، وتمت ترقيته إلى موقع رئيس الجمهورية، والحاكم الأبدي، ومؤسس السلالة الحاكمة!
هذا هو عبث التاريخ او لؤمه، واللؤم له وجهان، فكان لا بد من أن تنقلب المعادلات، وأن يدفع الابن ثمن الوجه الآخر لجبروت والده، وأن يجد أنه ليس في مواجهة مدينة واحدة، بل في مواجهة المدن السورية كلها، وأن قدره أن يدمر البلاد كلها، ويصير مجرد لاعب ثانوي، ينتظر إشارات من الولي الفقيه أو دعما من الأمين العام لحزب الله في انتظار الطيارات الروسية.
لكن مشكلتنا مع هذا «اللا أحد»، ليس في انتصاره فقط بل في عجزه عن الانتصار أيضا، انتصاره الذي بدأت تُدق له الطبول كارثة، وهزيمته التي يعبرّ عنها عجزه عن امتلاك القرار كارثة أيضا، لأن سوريا دخلت على يديه في مفترق تقاسم النفوذ الذي يعني أن عودة النظام إلى الحكم، ولو على المستوى الشكلي، لن تكون سوى استمرار لتمزيق سوريا وإخراجها من الجغرافيا السياسية للمنطقة.
قلت إن المقارنة مع المشهد الرمزي لعام 1967 ليست صحيحة أو لائقة، لكنني لا أستطيع أن لا أرى في هزيمة الثورات العربية خصوصا الثورة السورية، سوى تجسيد للهزيمة العربية الكبرى التي حاولت الأنظمة التحايل عليها بوسائل شتى، من كامب ديفيد إلى التدخل العسكري السوري خلال الحرب الأهلية اللبنانية… وكانت كلها محاولات لتنفيذ إملاءات الهزيمة من دون الاعتراف العلني والصريح بها.
عام 67 هزمت الجيوش العربية، أما في مطالع الألفية الثالثة فإن الشعوب العربية معرضة للهزيمة المُرّة.
لا شك أن نخب المعارضة في سوريا ومصر ولبنان واليمن وليبيا تتحمل قسطها الكبير من المسؤولية، ربما لأنها لم تبن استراتيجيتها، هذا اذا كان لها من استراتيجية أصلا، على مواجهة نظام الاستبداد برمته، وهو نظام مترابط تتشارك فيه الأنظمة الانقلابية مع أنظمة الكاز والغاز، الذي بدأت علامات تفككه مع الغزو الأمريكي للعراق وصعود النفوذ الإيراني.
أو أن المحاسبة الجذرية يجب أن تأتي سريعا، فالمشرق برمته يواجه كارثة شاملة اسمها فشل الأفق الديمقراطي الذي انفجر على المستوى الشعبي، وووجه بقمع وحشي من جهة ولم يواكبه وعي سياسي وفكري جديدين من جهة ثانية.
إن مشهد الجهاديين الأصوليين الذين مزّقوا علم الثورة السورية قبل أن يمزقوا المجتمع، يتصادم مع شبيحة النظام وهم يدوسون الناس ويمعنون في إذلالهم وقتلهم بالقصف والكيميائي والجوع…
وفي الصحراء السورية، يلتقي المشهدان، حلفاء النظام وشبيحته عاجزون عن تنفيذ وعدهم لركاب الباصات، وداعش أسير الطائرات التي تحوم فوق باصاته.
انه لؤم التاريخ الذي يشير إلى أننا لا نزال نقف أمام العتبة.