تتسارع الأحداث، وتتدحرج الملفّات، في عدة بلدان عربية أهمها سوريا والعراق وليبيا واليمن. وهي تجري وسط اقتران ثلاث ظواهر: التصدع الديني في أوساط الأكثرية الشعبية، والعسكريتاريا الأمنية والسياسية المغلقة، والتدخلات الاستيلائية والتقسيمية الخارجية. وقد كان الجمهور العربي خلال العقود الماضية خائفاً من دولته الوطنية، وهو الآن شديد الخوف عليها. وهذه الوقائع والنوازع تجعل الملفات تتعقد وتضيع. وقد اعتدتُ في مقالاتي خلال السنتين الأخيرتين أن أذكر أنّ هناك ثلاث ضرورات عربية: استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقات مع العالم. بيد أنّ رأس المعادلة اليوم وغداً يبقى استنقاذ الدولة الوطنية العربية. فأنا أزعم أنه حتى استعادة السكينة في الدين المدخل الصحيح إليها هو استنقاذ الدولة الوطنية. فقد كان بين أسباب الانشقاقات في الدين باتجاه الإسلام السياسي والآخر الجهادي، أن السلطات الوطنية فقدت ثقة شرائح واسعة من الجمهور، وبخاصة الشباب الذين أقبل فريق منهم على محاولة استبدال الدولة الوطنية بدولة موهومة باسم الدين. أما الشرائح الأوسع والتي ما اعتنقت إسلاماً سياسياً ولا جهادياً، فإنها غاصت في كآبات الفقر وقلة الحيلة، وهجر أوطانها سعياً لعيش آخر في بقاع الأرض. وكان من ظواهر ومظاهر تلك العقود المقبضة: التصدع الاجتماعي، وفقد تقليديات التضامُن والكرامة وإنسانية الإنسان. وإذا كانت انقفالات السلطات بين أسباب تلك الظواهر، فإن عودة الدولة للاستقامة في إدارة الشأن العام، تمهّد لاستعادة الثقة والمضيّ نحو أنظمة للمشاركة والعدالة وتكافؤ الفُرَص وحُكْم القانون.
قرأتُ في نتائج استطلاع أجرته مؤسسات عربية ودولية عام 2010 عن أسئلة الهوية في ثماني دول عربية، أن للانتماء لدى المواطنين العرب من متوسطي الثقافة ثابتين هما: الوطني والديني. ثم تأتي الوجوه الأخرى للهوية ومنها القومي والإثني والجهوي والعشائري. لذلك فإنّ التركيز على مشكلات الهويات الفرعية وصعودها وتفاقُمها غير صحيح. بل إن التوتر نال من وعي الأكثريات، أكثر مما نال من وعي الأقليات الدينية والعِرقية. وتبقى في وعي الجمهور للدولة الوطنية جماهيرها، رغم كل ما حصل في العقود الماضية أو بسببه. والدليل على ذلك أنه في الاستطلاع المذكور ظلَّ الوطني يتقدم على الديني وإن بدرجات بسيطة. فالدولةُ القويةُ التي تحظى بثقة الجمهور بسبب عدالتها وتنمويتها تستطيع طمأنته أيضاً إلى سلامة دينه، وأنه لا يتعرض للأخطار، كما أنها تنفي عن أذهان الشبان أوهام الدولة الدينية البديلة، باجتراح نظام للحكم الصالح.
ما كانت تجربةُ النجاح في الدولة الوطنية العربية مستحيلةً بدليل نجاحها في عدة بلدان عربية، وعشرات من بلدان آسيا وأفريقيا بعد زوال الاستعمار. لكن النُخَب العسكرية التي حكمت في بلدان عربية رئيسية لأكثر من جيلين، وتحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية في الحرب الباردة وبعدها، استسهلت اللجوء إلى الأمن في التعامل مع الجمهور، بدلاً من تفكير جاد في حل المشكلات. واستخدام القوة والتسلط حتى في تفاصيل الحياة اليومية، يُحبط الكثيرين، لكنه يثير الكثيرين أيضاً. لذا قلتُ إن الخوف من الدولة كان سائداً، أما اليوم فقد تغلبت دوافع الخوف عليها. لذلك ينبغي انتهاز الفرصة، لكي تستعيد الدولة الوطنية الزمام والثقة، وتسعى لاسترداد الجمهور الذي كان شديد التفاؤل بالعسكريين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
إن المهمة الآن في استنقاذ الدولة الوطنية تقع بالدرجة الأولى على عاتق فئتين: فئة السياسيين العاملين في إدارة الشأن العام، وفئة المثقفين والإعلاميين الذين يؤثرون في الرأي العام كثيراً. وقد قال السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر (1864-1920) إن العالم والسياسي كما يحتاجان في عملهما إلى الاحتراف، فإنهما محتاجان أيضاً إلى الروح الرسالية! وعندما تتوافر الإرادة والتضامن بين الفئتين، يصبح النهوض بالدولة والمجتمع ممكناً.
ولاشك أنّ المهمة صعبة جداً وسط التدخلات الإقليمية والدولية للشرذمة وصنع مناطق النفوذ، إنما لا خيار غير خيار الدولة للبقاء والعودة للذات والعالم.
ما كان الخوف من الدولة صحياً من قبل، وقد لا يكون الخوف عليها صحياً الآن، لكن الخوف الثاني هذا مفيدٌ رغم وجوه الحذر، لكي نهبّ جميعاً لاستنقاذ الدولة الوطنية.
المصدر : الاتحاد