أثار الإعلان عن توصل ألمانيا إلى اتفاق ثنائي مع مصر (الأحد 27 أغسطس 2017) حول مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر عبر أراضيها لغطا واسعا حول احتمال قبول القاهرة بإقامة مراكز إيواء للاجئين أو إعادة توطينهم. وقد نفت وزارة الخارجية المصرية ما تردد مؤكدة أن الاتفاق لم يتضمن مثل هذه البنود، وإنما ركز على الإجراءات التنموية وإتاحة فرص الهجرة الشرعية للشباب.
يرجع اللغط أساسا إلى طبيعة المساعي الأوروبية التي اتجهت إلى إزاحة أزمة اللجوء والهجرة من أراضيها إلى دول العبور أو الاستقبال، خاصة في الشرق الأوسط ودول أفريقيا جنوب الصحراء، تلافيا لما يرافقها من تهديدات أمنية وسياسية وهوياتية للداخل الأوروبي.
وكان من اللافت أن يعقب الاتفاق المصري- الألماني بيوم واحد فقط، اقتراحا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتأسيس مراكز إيواء واستقبال أوروبية لفحص طلبات اللجوء في بلدان أفريقية، خلال قمة أوروبية- أفريقية، ضمت قادة 7 دول (فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والنيجر وتشاد وليبيا).
عزز هذا الاقتراح الاتجاه الأوروبي الساعي إلى تحويل دول أفريقية إلى حارس أمني متقدم يحد من تدفق اللجوء والهجرة إلا أن ذلك تعرض لرفض تشادي واضح خلال القمة، وعدم حماس إيطالي- ألماني لمساعي ماكرون لقيادة أوروبا في هذا الملف.
وتشير الاتفاقات الأوربية الأخيرة حول الهجرة إلى انتقالها من مجرد تمويل برامج تنموية وأمنية في دول المنشأ، أو العبور أو الاستقبال بغرض حث المهاجرين على البقاء في بلادهم ودعم قدرة الحكومات على مراقبة الحدود، إلى الضغط على هذه الدول كي تحتجز اللاجئين وتعيد فرزهم بغرض منح اللجوء لمن يستحقونه أو التوطين في دولة العبور أو حتى إعادتهم لدولة المنشأ.
برز هذا الاتجاه جليا في مذكرة التفاهم الايطالي- الليبي في فبراير الماضي، والتي تضمنت تعهدا لروما بتمويل مخيمات المهاجرين في ليبيا، وكذلك دعما تنمويا وتعاونا أمنيا مع حكومة الوفاق الليبي لتدريب خفر السواحل لمواجهة تهريب البشر والجريمة المنظمة. يضاف إلى ذلك الاتفاق الأوروبي مع تركيا في مارس 2016، والذي تعلق بكبح تدفق الهجرة واللجوء، عبر بحر إيجه مقابل مزايا سياسية ومساعدات تنموية لأنقره بلغت ستة مليارات يورو، بل إن إرسال روما لسفن عسكرية إلى المياه الإقليمية الليبية في أغسطس الجاري مثل تنفيذا عمليا لسياسة أوروبية لمنع تدفقات اللجوء عبر جنوب البحر المتوسط. إلا أن كل هذه الاتفاقات والإجراءات تعرضت لانتقادات حادة من الأوساط الحقوقية، حيث عدتها تنازلا أخلاقيا أوروبيا ومخالفة صريحة للاتفاقات والمواثيق الإنسانية الدولية.
على ضوء هذه المعطيات، بدا الجانب المصري، الذي خاض مفاوضات لأشهر مع ألمانيا قبل التوصل للاتفاق الأخير، مدركا لخطورة التوجهات الأوروبية في ملف الهجرة واللجوء، الأمر الذي جعل القاهرة تصوغ معادلة ثابتة ومتوازنة لا تمانع فيها من التعاون الدولي للحد من تأثيرات اللجوء، لكن من دون الذهاب إلى الموافقة على مبدأ إقامة مخيمات أو إعادة توطين رعايا أجانب لدول أخرى.
وتكمن أسباب عديدة وراء هذه السياسة المصرية التي تشاطرها فيها دول في شمال أفريقيا، كالجزائر وتونس، من ذلك أن:
* إقامة مخيمات ومراكز إيواء للهجرة واللجوء في بلد العبور أو الاستقبال بات مرتبطا بانتهاكات حقوق الإنسان وبروز بؤر أمنية وسياسية للتوترات الداخلية، بخلاف ما يستدعيه ذلك من تجارب سلبية عالمية، مثل، معازل السود في جنوب أفريقيا أو حتى مراكز الاحتجاز في ليبيا إبان نظام القذافي، أو مخيمات اللاجئين في شرق الكونغو بعد الحرب الدموية في رواندا. ولا تزال القاهرة تذكر أزمة اعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود بالجيزة في العام 2005، والذي أثار فضه عبر أجهزة الأمن آنذاك عاصفة من الانتقادات الحقوقية.
* الرؤية المصرية ترى معالجة قضية الهجرة من منظور شامل يركز ضرورة على معالجة العوامل الجذرية (السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية) المصدرة للهجرة في بلدان المنشأ، بما يقتضي تعاونا دوليا لإقرار السلام والتنمية في هذه البلدان، وليس فقط التركيز على الجانب الأمني وإزاحة تهديد الهجرة عبر مراكز الإيواء أو إعادة التوطين بما يفاقم أزمات دول العبور أو الاستقبال.
*احتمال تحول إعادة توطين المهاجرين واللاجئين إلى أقلية مجتمعية وسياسية قد تجلب من ورائها ضغوطا أمنية داخلية، كما حال تجربتي الأردن ولبنان واللذين يعانيان من تأثيرات أمنية واقتصادية وسياسية لمخيمات اللجوء السوري، بل المعضلة الأكبر تحدث عندما تخل تدفقات اللاجئين تلك بالتوازنات السياسية والديموغرافية، بما يهدد بنية الدولة ذاتها.
* أما السبب الرابع والأخير فيركز على الأعباء الاقتصادية التي تتحملها دول العبور والاستقبال، في ظل ضغط اللاجئين على خدمات البنية التحتية في هذه الدول.
شكلت مثل هذه الأسباب الخلفية التي صاغت الاتفاق المصري- الألماني حول الهجرة، إذ بدا مضمون الاتفاق متجها نحو أمرين، أحدهما، ذكره الجانب الألماني -على لسان شتيفن زايبرت المتحدث باسم حكومة ألمانيا- حيث قال “معا سننشئ (أي القاهرة وبرلين) مركزا للوظائف والهجرة وإعادة الدمج في مصر".
ومن المتوقع، حالما تم الأمر، أن يحول ذلك المركز القاهرة إلى لاعب إقليمي في مجال تدريب الحكومات على بناء قدراتها في الحد من الهجرة، في ضوء ما تملكه مصر من موقع جغرافي لمصر يجعلها دولة “استقبال” و”عبور” و”منشأ” في آن وقريبة من مناطق تصدير وعبور اللجوء في أفريقيا والشرق الأوسط، بخلاف، تنامي الدور الإقليمي المصري على الساحة الأفريقية، وكذلك منطقة شمال أفريقيا، وخاصة الأزمة الليبية، حيث تلعب القاهرة دورا أساسيا في تفاعلاتها الداخلية.
أما الاتجاه الثاني، كما ورد في بيان الخارجية المصرية، فيتعلق باستهداف الاتفاق بين القاهرة وبرلين بناء القدرات المصرية في مجال الهجرة عبر الدعم التنموي بمنحة ألمانية مالية تقدر بـ28 مليون يورو، لتوفير فرص عمل للشباب وتشجيع الهجرة الشرعية ومكافحة التهريب والاتجار بالبشر وزيادة المنح الألمانية للطلبة المصريين وإعادة إدماج المصريين العائدين طوعيا إلى بلادهم.
وعكس ذلك الاتفاق المساعي الألمانية لتوسيع التعاون مع دول شمال أفريقيا في مسألة الحد من اللاجئين، خاصة وأن تلك الدول تشكل معبرا رئيسيا لهم إلى أوروبا عبر ليبيا في جنوب البحر المتوسط، في ضوء انحسار الهجرة في شرق المتوسط إثر الاتفاق التركي- الأوروبي.
وكان اتفاق برلين والقاهرة قد سبقه اتفاق آخر مماثل مع تونس في مارس 2017 استهدف أيضا دعمها تنمويا لخلق وظائف، والحد من الهجرة، فضلا عن الاتفاق على تسريع إجراءات ترحيل التونسيين الذين لم تقبل طلبات لجوئهم في ألمانيا.
وقبل ذلك، أعلنت ألمانيا أن كلا من تونس والمغرب والجزائر دول آمنة في شمال أفريقيا في يناير 2016، مما يصعب من حصول مواطني هذه الدول على حق اللجوء لهذا البلد الأوروبي.
بيد أن للتحركات الألمانية تجاه القاهرة أبعادا أخرى مثل تخفيف حدة الانتقادات السياسية الداخلية لسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تجاه ملف الهجرة، ذلك أنها أسهمت في فتح الباب واسعا أمام قرابة 1.1 مليون لاجئ، معظمهم من سوريا، والعراق وأفغانستان منذ العام 2015.
وتخشى ميركل من أن تؤثر تلك الانتقادات على فرصها في الفوز في الانتخابات في سبتمبر القادم، في ظل الخلافات حول ملف الهجرة داخل حزب المحافظين الذي تتزعمه ميركل. على الجانب الآخر، فإن الاتفاق بين القاهرة وبرلين يمثل مدخلا -ولو محدودا- لتخفيف الأعباء الاقتصادية لمصر التي تتحمل على أراضيها ملايين اللاجئين والمهاجرين القادمين من دول أفريقية وشرق أوسطية فقيرة، دون مساعدات دولية استطاعت دول أخرى بالمقابل الحصول عليها.
وبرغم أن تقديرات اللاجئين في مصر -وفقا لمفوضية الأمم المتحدة العام الماضي- تصل إلى 186 ألف شخص (بينهم 131 ألف سوري، إضافة إلى 60 جنسية أخرى من ليبيا والسودان وإرتيريا والصومال وغيرها)، إلا أن المسؤولين المصريين قد أشاروا إلى وجود قرابة الخمسة ملايين لاجئ في مصر. ومبعث تلك الفجوة يعود إلى عدم تسجيل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لكل من يدخل الأراضي المصرية.
ما يلفت النظر في الحضور المصري في التعاون على مسألة الهجرة أن القاهرة تملك نموذجا استيعابيا للاجئين والمهاجرين لم يؤد إلى إثارة توترات أمنية واجتماعية وسياسية داخلية، فعلى سبيل المثال، فإن اللاجئين السوريين في مصر يمثلون عنوانا للتكيف وعدم إثارة أزمات ربما أكثر من نظرائهم الأفارقة، لا سيما وأنهم ركزوا أكثر على القيام بأنشطة اقتصادية وتجارية واسعة في القاهرة والمحافظات المختلفة.