لعل أهم ما الازمة الخليجية التي تكاد تصبح من طبائع الخليج العربي وأقداره النهائية، أنها تنهي حقبة كان فيها الخليجيون صناع قرارات عربية، وممولي سياسات عربية، ومرشدي توجهات عربية-إسلامية، من دون أن يبدو أن في الافق العربي بديلاً، يخفف من وطأة الفراغ والفوضى.
لم يعد هناك جدال في أن مصدر الازمة أميركي. لم يكن الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب محرضاً مباشراً، لكنه بالتأكيد كان محفزاً قوياً. قمة الرياض والاجتماع السداسي الشهير ، الذي عقده مع مسؤولين من السعودية والامارات ومصر والبحرين، كان يهدف الى تحديد ساعة الصفر لشن الهجوم الالكتروني والسياسي والاقتصادي على قطر، الذي بدأ في الخامس من حزيران يونيو الماضي ، ولما ينته بعد.
لم يكن الاميركيون، وليس رئيسهم فقط، يمانعون أن تنفجر أزمة بين دول الخليج العربي، التي راكمت مع ثوراتها أدواراً لم تعد مرغوبة كما في الماضي، وأن تتحول واشنطن الى مركز إستقطاب يتنافس الخليجيون على كسب وده ومظلته وعلى إستخدامه في صراعاتهم الداخلية التي بلغت منذ الربيع العربي مستويات لم يسبق لها مثيل، من التناحر والصدام المباشر في أكثر من ساحة عربية.
كان وجود ترامب عاملاً مؤثراً في إنفجار تلك الازمة التي كان يفترض ان تحصل في العام 2014، عندما إتخذت السعودية والامارات والبحرين قرار سحب السفراء من الدوحة، لكن الظرف الدولي لم يكن ملائماً، كما أن الوضع العربي لم يكن بائساً الى الحد الذي يسمح بإعلان الحرب الشاملة على قطر، قيادة وشعباً، على النحو الذي سجل قبل شهرين..برغم ان خطة الحصار الحالي الجوي والبري والبحري كانت جاهزة منذ ذلك الحين.
الازمة باقية طالما بقي ترمب في منصبه. وكل ما يحكى عن وساطات او مساع حميدة ليس سوى أوهام. الكويت باتت تعرف ان وساطتها سقطت، بقعل التعنت السعودي الاماراتي، الذي لا يفسح المجال لأي وسيط آخر كي يتقدم بعرض جدي يؤدي الى تقريب وجهات النظر الخيليجية، والى تصويب وجهات النظر الاميركية التي تميل الى التعايش مع الازمة لزمن بعيد.
والازمة باقية أيضاً طالما بقي الحكم السعودي والاماراتي في يد الفريق الحالي الذي كان يظن أن قطر يمكن ان تنهار من اللحظة الاولى، وربما ما زال يعتقد أنها يمكن ان تضعف في مرحلة ما ، بما يسمح بإختراقها من الداخل..على الرغم من التجربة الاخيرة التي تذرعت بموسم الحج ، اعتمدت على شخص مجهول من العائلة القطرية الحاكمة، كان مردودها عكسياً.
إستمرار الازمة ، التي كان ترامب يتوقع ربما ان تنتهي في فترة أيام أو أسابيع في الحد الاقصى، والتي كان السعوديون والاماراتيون يترقبون قطف ثمارها سريعا، لا يمثل تحدياً خاصاً بالنسبة الى الاميركيين، بل لعله يتسق مع قرارهم الاول، بدليل أنهم أحالوها الى مبعوثين، من رتبة متدنية، أحدهما من خارج الادارة ، هو الجنرال أنطوني زيني، والاخر موظف في وزارة الخارجية هو مساعد الوزير لشؤون الشرق الادنى، تيم ليندركين، اللذين جالا على دول الخليج مطلع الشهر الماضي وغابا عن السمع منذ ذلك الحين.. ولم يعد يصدر من واشنطن حتى الدعوة الى فك الحصار عن المواطنين القطريين، وتحييدهم عن الخلاف السياسي بين الحكام.
لا نهاية قريبة للازمة، التي بات التعايش معها خياراً أميركياً عاماً يفرض نفسه على الروس والاوروبيين وعلى بقية العرب الذين غادروا إنحيازاتهم الاولى وصار مستعدين للتسليم بان ما يجري في الخليج شأن خليجي خاص، يمكن نسيانه، طالما أنه لا حاجة لمواجهة التوتر السعودي والاماراتي، وطالما أن قطر أثبتت قدرتها على الانتقال من مرحلة الصمود الى مرحلة التصدي.الاستثمار العربي في الازمة يتقلص، والاستفادة منها تكاد تكون مستحيلة، لاسيما بعدما إنقلب السحر على الساحر ، وعادت الازمة الى جذورها السعودية والامارتية، التي لا يمكن تمويهها بالهروب الى الامام ، تحت عنوان فارغ من أي محتوى، مثل العلمانية الخليجية، التي لم تثر سوى الهزء.
الازمة في واشنطن، كانت وستبقى. والخليج يدفع اليوم ثمن الانحدار الاسوأ في تاريخ الامبراطورية الاميركية التي كانت ضامنة الاستقرار والازدهار للخليجيين جميعاً .