يعاني بيار من مشكلات متواصلة مع خطيبته، وهما في كرّ وفرّ منذ سنوات، يقطعان علاقتهما، ينفصلان لأسباب إقتصادية ولأنه غير قادر على تأمين منزل مستقلّ يأويهما معاً، وفي كلّ مرة يعيدهما الحب الجارف عن قرارهما. إلّا أنّ بيار كان كلّما تركته خطيبته يتناول جرعة كبيرة من أيّ دواء في متناول يده، محاوِلاً الإنتحار، وكانت في كلّ مرة تسلم الجرّة، لغاية الآن. بيار اليوم في العيادة النفسية، طالباً المساعدة، إذ قرّر عدم إنهاء حياته، بل إنهاء المشكلة التي يعاني منها، ويقول: "إما نتمكن من إيجاد حل للمشكلة الإقتصادية وإلّا ننفصل. أنا هنا لأنني لا أتحمّل ألم وعذاب البعد عن حبيبة عمري، أحتاج للمساعدة".

إنتبه بيار بأنّ ما يريده فعلاً هو التخلّص من مشكلة لا يجد منها مخرجاً، وليس التخلّص من حياة وهبها الله له. هو يريد إنهاء معاناة مؤلمة لا يستطيع تحمّل وجعها. لكن ماذا لو سار الجميع على خطاه وطلبوا المساعدة من الأشخاص المختصّين، كي يتمكّنوا من الوصول إلى مرحلة تمكّنهم من السيطرة على الإنفعال، وكذلك تحويل الأفكار السلبية التي تؤدّي إلى الإنتحار إلى إيجابيات لا يستطيعون رؤيتها لشدّة الإستسلام والإنفعال؟

يقرّر أكثر من مليون شخص سنوياً وضع حدّ لحياتهم عبر الإنتحار الإرادي، ينجح منهم حوالى 800 ألف، وينجو الباقون، الذين غالباً ما يعيدون الكرة.

مَن هم الأشخاص الذين يحاولون الإنتحار؟


يحاول إنهاء حياته مَن يعاني من أمراض واضطرابات نفسيّة، تدفعه أعراضها للقيام بالأمر، منها الفصام، اضطراب الشخصية الحدّية، الإكتئاب، فقدان الإهتمام بالأشياء، فقدان الشهية العصابي، وغيرها. الأهم بالنسبة للأشخاص الذين ذكرناهم هو التوجّه إلى عيادات الأطباء والمعالجين النفسيّين، وعلى المحيطين بهم من عائلة وأصدقاء حثّهم على ذلك، ومتابعتهم بعد البدء بالعلاج الدوائي للتأكد أنه ليس هناك أيّ تفاعلات عكسية وغير مرجوّة.

أمّا السبب الرئيس للإنتحار في لبنان فهو الإكتئاب الناتج عن الإضطرابات النفسية، الضغوطات الحياتية المتراكمة التي نتجت عن آثار الصراعات والحروب، والتي ترتبط أيضاً بالأسباب الإقتصادية، العاطفية، من إنفصال أو موت شخص عزيز. كما تلعب الضوابط الإجتماعية دوراً هاماً في التسبّب بالإكتئاب، اضطراب الهوية الجنسية، كما يعاني المثليّون من عدم تقبّل المجتمع لميولهم وبالتالي رفضهم وانتقادهم.

كذلك، يهرب باتجاه الإنتحار مَن كان عرضة لمرض مزمن، أو ناتج عن محرّمات إجتماعية، كالسيدا مثلاً، ومَن تعرّض للتحرّش الجنسي أو الإغتصاب، تخلّصاً من وصمة العار. ويلجأ بعض الأشخاص المسنين للإنتحار بسبب الإكتئاب الناتج عن التقدّم بالعمر وفقدان الأمل والرغبة بالحياة، بالأخص عندما يهملهم الأبناء.

مَن حاول الإنتحار لمرة وفشل، ربما ينجح بمحاولة لاحقة. وقد يرى الآخرون سبب انتحاره تافهاً، إلّا أنّ المهم بالموضوع هو تلك الإشارة التي أعطاها للمحيطين به بأنه منهك، متعب، ولم يعد قادراً على تحمّل المزيد. صحيح أنّ القطوع قد مرّ مرحلياً، لكنّ الوقاية ممّا يتبع أصبحت ضرورية، أي معالجة الدوافع التي أدّت إلى اتّخاذ ذاك القرار.

الحلّ


الحماية من الإنتحار لا تكمن في مراقبة الآخر، والسهر إلى جانبه، فهو لو أراد ذلك لن يوفّر وسيلة، بل في معالجة دوافع السبب الأول لهذه الظاهرة في لبنان، أي الإكتئاب.

للإكتئاب مسبّبات كثيرة، لكن ممّا لا شك فيه أنّ للضغوطات الحياتية والإجتماعية حصة الأسد. لنحاول إذاً العمل على الأساس، أصل المشكلة، فإذا كنا لا نستطيع تغيير الواقع المعاش، علينا أن نعمل على تحصين بنية الأشخاص النفسية، كي يتمكّنوا من التعاطي بمرونة مع الظروف الصعبة التي تواجههم.

كي لا يفيض كوب كلّ منا اكتئاباً وانتحاراً علينا بالدعم النفسي الجماعي، علينا أن نتعلم كيفية التعامل مع الأمور بإيجابية أولاً، وبموضوعية. علينا أن نجيد إدارة التوتّر، تفريغ القلق والخوف، بالإضافة إلى الأهم، ألا وهو المصالحة مع الذات، وكيفية اعتبار الحرية الشخصية أكثر من شعار نتغنّى به. والآخر، أيّاً كان، نحتاج لثقافة تقبله مختلفاً عنّا لوناً وجنساً وديناً ومعتقداً، كي نعرف السلام والراحة.

عندما نتعاطى مع أمورنا بموضوعية، نسمح للمنطق بالظهور، فلا ننجرّ وراء انفعالاتنا بشكل غرائزي، معميي البصيرة، معدومي الخيارات والحلول. أما التركيز على النواحي السلبية للأحداث، فهو يحجب نظرنا عن الإيجابيات الموجودة، كيف لا؟ وقد تعوّدنا على الشكوى، واضعين نصب أعيننا الفشل والخسارة سلفاً؟

للتوتّر والقلق حديث آخر، يطول. تراكمات نجمعها في داخلنا، لسنوات طويلة، نخجل من الإعتراف بها، إلى أن يفيض الكيل، عنفاً زوجياً، جرائم قتل على الطرقات لأسباب لا تُذكر، إغتصاب، إدمان وآفات أخرى كثيرة.

لو تعمقنا بالنظر إلى داخلنا لرأينا كيف أنّ نفوسنا ترشح قلقاً وخوفاً، تنضح منها آثار الحروب، ونحن شهود عليها، بأعيننا أو بأعين أهلنا، كلنا خائفون، غارقون في القلق، في الصدمات النفسية. مَن منا لم يفقد حبيباً على الأقل، أو حتّى عملاً أو رزقاً؟

الحلّ للخلاص من الإكتئاب واحد أوحد، هو الوعي من خلال تحصين الذات، كي نتمكّن من تحمّل ما تحضّره الحياة من مفاجآت قد تكون صعبة وموجعة.