وبَعد هذه المعارك استمرّ هذا التصويب وما يزال، بالتوازي مع منصّةٍ خارجية صوَّبت على الحزب من الباب العراقي، على خلفية الاتفاق بينه وبين تنظيم «داعش» ونقلِ إرهابيّي هذا التنظيم من القلمون الغربي إلى منطقة دير الزور، أي إلى مقربة من الحدود السورية العراقية.واضحٌ أنّ التصويب الداخلي على «حزب الله» هو مِن النوع الذي يرى الحزبُ أنه يمكن أن يُحتوى، وهو ما عكسَه السيّد حسن نصرالله في إطلالاته المتتالية خلال المعارك، إلّا أنّ المنصّة العراقية والكلامَ المباشر للرئيس العراقي حيدر العبادي الذي اعتبَر اتفاق «حزب الله» مع «داعش» الإرهابي، «إهانةً للشعب العراقي»، أصابت الحزبَ بشكل مباشر إلى حدّ «إحراجه»، ما أوجَب دخولَ السيّد نصرالله شخصياً ببيان توضيحي.
إلّا أنّ هذه المسألة ما زالت في دائرة التفاعل عراقياً، وكذلك لبنانياً في وجه الحزب. والسؤال هنا: إلامَ يؤشّر ذلك؟
تُجمع القراءات السياسية على أنّ هذه الصورة السجالية تُشكّل العنوانَ الأساس للمرحلة المقبلة، والهدفُ الأوّل والأخير منها هو محاولة حشرِ «حزب الله»، وتجويف الانتصار الذي حقّقه في الجرود اللبنانية والسورية على المجموعات الإرهابية، إلّا أنّ أياً مِن تلك القراءات لا تستطيع أن تحدّد السقفَ الذي يمكن أن تصل إليه هذه المحاولة.
• المصوِّبون على الحزب داخلياً، يتملّكُهم شعورٌ بأنّ «حزب الله» سيكون في وضعٍ لا يُحسد عليه، وثمَّة أوراق كثيرة ستُفتح في وجهه في الوقت المناسب، وستقطع عليه كلّ طرق الاستثمار الداخلي لِما فعَله في الجرود، ومن دون أن يكشف هؤلاء ماهيّة هذه الأوراق وما تحويه.
• الوسَطيون، ينتابهم القلق من ارتفاع وتيرة الخطاب السياسي، وهم، وإن كانوا يتجنّبون مماشاةَ المصوِّبِ والمصوَّب عليه، يرَون أنّ ثمّة أمراً واقعاً فرَض نفسَه، وبات من الصعب إنْ لم يكن من المستحيل تغييرُه أو تعديله أو إزالته ومنع مفاعيله، وهذا الأمر الواقع ينبغي المساكنة معه ومقاربتُه كفرصةٍ لإعادة إطلاق الحوار الداخلي حول المرحلة المقبلة، وخصوصاً بين تيار المستقبل و«حزب الله» وإعادة تنظيم الخلافات بينهما.
• المحايدون، مرتابون، ذلك أنّ المؤشّرات التي تجمَّعت لديهم، تؤكّد أنّ المسألة ليست مسألة طبقةِ صوتٍ مرتفعة أو حملة صوتيّة بين هذا الطرف أو ذاك، بل هي أبعد مِن ذلك بكثير، إذ إنّها تُعيد حفر الجرح الداخلي في العمق، وتبدو من خلال تموضُعِها خلف متاريس التقاصفِ المتبادل، وكأنّ هناك ارتباطاً عميقاً بإرادة خارجية وأوامر عمليات إقليمية ودولية، والخوف الأكبر الذي يتملك هؤلاء المحايدين هو أن يُجَرَّ لبنان إلى استنساخ جولات الصراع السابقة، وأن يتمّ إدخاله مجدّداً في متاهةٍ سياسية مفتوحة على شتّى الاحتمالات السلبية، ليس أقلّها إعادة خلطِ أو بعثرة الأوراق الداخلية، على نحوٍ قد لا يُبقي الحكومة بمنأى عن التأثّر بهذه السلبيات، وقد يصل في لحظة معيّنة إلى توليد أسئلةٍ جدّية حول الانتخابات النيابية المقبلة ومصيرها.
• المتحمّسون لـ«حزب الله»، لا يعفونه من مسؤولية تركِ بعضِ الأطراف تُصوّب عليه بالطريقة التي تجري، وثمّة أصوات في هذا الجانب ترى أنّ الحزب يملك قدرةَ الردع السياسية لهؤلاء.
وتذهب حماستها المفرطة إلى حدّ مطالبةِ الحزب بمغادرة ما يسمّيها أصحاب هذه الأصوات، «سياسة اللين» التي يتبعها مع المصوِّبين عليه، وبالتالي الفرصة مؤاتية له لتثمير انتصاره في الجرود على المستوى الداخلي وفرضِ توازنات جديدة في اللعبة الداخلية.
إلّا أنّ هذه الاصوات لا تجد لها صدى لدى «الثنائي الشيعي»، بل هي ولّدت نفوراً وانفعالاً من أصحاب هذا «المنطق الحربي»، الذي لا يوصل إلّا إلى مكانٍ وحيد وهو خراب البلد.
• حركة «أمل» قالت كلمتَها عبر الرئيس نبيه بري الذي أكّد أنّ الانتصار الذي حصل على الإرهاب هو «انتصار ونُص» بفضل الجيش والمقاومة، والأهمّ بالنسبة إلى رئيس المجلس هو إصرارُه على سياسة مدّ اليد، والتأكيد على الشركة. وعلى قاعدة «أشهد أنني قد بلّغت»، رسَم بري طريقَ التلاقي الذي لا بدّ من سلوكه، وحدّد المصير الذي لا مفرّ منه، بقوله: «نحن كلّنا في مركبٍ واحد، ننجو معاً أو نغرق معاً».
• أمّا «حزب الله» فيَعتبر أنّ الانتصار على إرهابيي «النصرة و«داعش» قد تمَّ وانتهى الأمر، ويلاحظ في قراءته للانتصار والارتدادات التي تأتَّت عنه، أنّ هناك من يَشعر بأنه تلقّى صفعةً على وجهه وفي مشروعه.
وبالتالي هناك خطة واضحة وحملة منظمة تقودها الولايات المتحدة، تبدأ من لبنان وقد لا تنتهي في العراق، لإظهار «حزب الله» بمظهر «المتلبِّس» وأنّه ضُبط بالجرم المشهود بالتفاوض مع «داعش»، الذي أعقب استسلام الإرهابيين، مع إثارة عشرات الأسئلة حول طبيعة ما جرى لمحاولة حشرِ الحزب في الزاوية والتشكيك بكلّ ما جرى.
كلّ ذلك، في رأي الحزب، كان متوقّعاً من قبَل الأميركيين، والسبب بسيط جداً، وهو أنّ الانتصار الاستراتيجي الذي تحقّقَ في الجرود وجَّه صفعةً إلى الحسابات الأميركية، وأربَكها إلى حدّ لم تستطع فيه منعَ تحقيقِ الانتصار في الميدان، فعَمدت إلى محاولة تجويفه بعدما تحَقّق.
وكما حاولوا تلبيسَ «حزب الله» جرمَ المفاوضة مع «داعش»، حاولوا إلباسَ العراق دوراً غيرَ مسبوق له، تجلّى في ما صدرَ من مواقف عن بعض المسؤولين العراقيين، ولعلّ القول بأنّ نقلَ 300 مسلّح من «داعش» من القلمون إلى دير الزور، وهي أرض سوريّة، سيؤدّي إلى قلبِ ميزان القوى الميدانية وإلى ضغطٍ على الواقع العراقي، ليس سوى نكتةٍ غيرِ مضحكة، فهؤلاء «الدواعش» مهزومون وخرجوا منهارين ورَحلوا نحو جبهةٍ تمتدّ إلى عشرات آلاف الكيلومترات، وثمّة أصوات عراقية أخرى قد تعالت لدحضِ هذه المقولة أو بالأحرى لدحض هذه الفتنة التي أراد الأميركيون أن يخلقوها داخل محور المقاومة، ومع الدول الحليفة.
وبحسب القراءة الحزبية فإنّ المضحك هو الإعلان الأميركي عن قصفِ طيران التحالف الدولي الذي تتزعّمه واشنطن الطريقَ أمام قافلةِ الدواعش الخارجة من الجرود لمنعِها من إكمال الطريق نحو دير الزور،.
فلماذا هذا القصف؟ فإن كانت صادقة، لماذا لم تقصف القافلة نفسَها، وكلّها من «الدواعش» الذين تقول إنّهم أعداؤها؟ وأكثر من ذلك، ماذا فعلت الطائرات العسكرية الأميركية التي هبَطت في بعض الأمكنة السورية والعراقية؟
ومَن نَقلت على متنِها؟ والروس يقولون إنّها نقلت «رؤوس دواعش». ثمّ لنعُد إلى الماضي القريب ونسأل: أليست واشنطن نفسها، التي سبق لها أن تركت عشرات، لا بل مئات القوافل التابعة لـ»داعش» تَعبُر الصحراء في سوريا وغيرها، آلاف الكيلومترات من دون أن تحرّك ساكناً؟ فلماذا قصفَت الآنَ عبر تحالفِها الدولي، أليس للتحريض على الحزب ومحاولة إيقاع الشقاق بينه وبين أشقّائه؟
وتختم القراءة الحزبية « أنّها خطة مكشوفة يحاول من خلالها المهزومون أن يعوّضوا ما خسروه في ميدان الانتصار على الإرهاب، وهي خطةٌ حظوظُ نجاحِها منعدمة في نظر «حزب الله». وأمّا بالنسبة إلى الداخل اللبناني فسيتكيّف بكلّ قواه مع الانتصار المتكامل للجيش والمقاومة إنْ عاجلاً أو آجلا».