بعد انتهاء كل معركة عسكرية، سواء أكان بالحسم العسكري أو بتسوية وصفقة، تتكشف خبايا كثيرة يصرّ الطرفان المتقاتلان على اخفائها خلال الاشتباك. ولكن بعدها، تبدأ هذه الحقائق بالتكشّف، على غرار ما يحصل اليوم من خلال تسريب فيديوهات، لمشاورات آب 2014، في معركة عرسال الأولى، بين جبهة النصرة وهيئة العلماء المسلمين التي كلّفت من الحكومة اللبنانية بالتفاوض مع النصرة، للانسحاب من عرسال وتسليم العسكريين المخطوفين. حصلت تلك المعركة، بعد توقيف الجيش اللبناني قائد لواء فجر الإسلام عماد أحمد جمعة على أحد حواجزه خلال محاولته دخول عرسال. وقد هددت التنظيمات المسلّحة في تلك الفترة بأنه إذا لم يطلق سراح جمعة خلال أربع ساعات، ستلجأ إلى الردّ عسكرياً.
حصل الاشتباك ودخلت النصرة عرسال، بالإضافة إلى بعض الفصائل التي بايعت تنظيم داعش. وقد استطاع هؤلاء خطف 37 عسكرياً من الجيش وقوى الأمن. وبعد شن الجيش هجوماً عسكرياً ضد التنظيمين، توقفت المعركة وبدأت المفاوضات. في تلك المفاوضات، كررت النصرة مطالبها بضرورة إطلاق سراح جمعة مقابل الانسحاب وإطلاق سراح الأسرى العسكريين والحصول على ضمانات بعدم التعرض للاجئين، وإيصال المساعدات الطبية والغذائية إلى المخيمات. وعلى هذا الأساس، حاولت النصرة اللعب على العواطف وكسب الرأي العام، أولاً من خلال ما أسمته مبادرة حسن نية قضت بإطلاق سراح ثلاثة عسكريين في البداية، ووعدت بأن يطلق سراح الجميع، إذا ما تحقق لها ما أرادت. لكن، فيما بعد، حصلت تطورات دراماتيكية، إذ تعتبر النصرة أن الجيش شن حملة عسكرية ضدها، واستهدف بالقصف عدداً من المخيمات، ما أدى إلى مقتل نحو خمسين لاجئاً سورياً بينهم نساء وأطفال. وعليه، رفضت التفاوض وأعلنت تمسّكها بالعسكريين كأسرى. وهذا ما توضحه الفيديوهات المسرّبة اليوم. والجميع يذكر تعرَّض موكب هيئة العلماء المسلمين لإطلاق نار خلال توجهها إلى عرسال لاستكمال المفاوضات. ما أدى إلى إصابة شخصين أو أكثر من الوفد.
لا شك في أن الفيديوهات يمكن استخدامها في أي سياق سياسي يريد المرء أن يوظفها في خدمته. قد يستطيع التحريض على عرسال مثلاً، إذا ما جرى الاستناد إلى كلام أبو مالك التلّي، أو الشيخ مصطفى الحجيري المعروف بأبي طاقية. إذ إن التلي يشكر أهالي عرسال على احتضانهم واحتضان اللاجئين، فيما أبو طاقية يذهب أكثر من ذلك ليعتبر أنه مستعد للقتال ضد الجيش للدفاع عن النفس والبيت والعرض. وهناك من يعتبر أن ثمة كلاماً آخر قيل لكنه لم يسرّب. وهو أن أبو طاقية طلب من النصرة البقاء في عرسال، كي لا يشعر من يواليهم في عرسال بالخذلان، ولأن أهالي عرسال سيُتركون أمام مصيرهم المحتوم في مواجهة الجيش أو إلقاء القبض عليهم.
ولا شك أيضاً أنه في تلك الفترة، كان هناك بعض المتحمسين للنصرة ولما تفعله، بسبب تأييد الثورة السورية، أو بسبب الشعور بالغبن والحاجة إلى من ينصرهم، أو يقوّي من عزيمتهم ويعزز من موقعه. لا حاجة الآن إلى الدخول في تقييم هذا الخطأ، خصوصاً أن مناصرة الثورة السورية تتعارض مع تأييد النصرة أو موالاتها، لأنها جزء أساسي في حرف مسار الثورة، وعسكرتها، وضرب بنيتها المدنية، وحتى العسكرية المتمثّلة بالجيش الحرّ.
قد يكون لهذه الفيديوهات وظيفة سياسية في هذه المرحلة، أولها اللعب على معنويات من أيد هذا الخيار في فترة من الفترات، والتوجه إليه بالقول إن هؤلاء خسروا وخذلوك، وثانيها ربما قد يستخدم في التصويب على عرسال واستهدافها بكل مكوناتها، استناداً إلى إدانة شخص أو أكثر تورطوا في تلك الأحداث. قد تكون هذه الفيديوهات مقدّمة لحرب تصفية حسابات، ولا يقتصر ذلك على الإشارة إلى ما كان يقوله أبو طاقية، الذي غادر كثيرون من المقربين منه إلى إدلب مع قوافل النصرة، إنما أيضاً من خلال التصويب على عضو هيئة العلماء المسلمين، الشيخ حسم الغالي، الذي ظهر في الفيديو، يردّ التلّي حين قال إن النصرة لن تسمح لهم بالمغادرة، فقال إنه سيبقى في عرسال. لا حاجة هنا إلى النقاش في لغة الجسد، أو كل هذه المسوغات، إذ إن الغالي يعتبر نفسه معتقلاً، وبالتالي لم يكن بإمكانه المعاندة، ومهمّته التفاوضية كانت تفرض عليه تليين الموقف لتحقيق أي مكسب أو نقطة. ففي ذلك الظرف، وفق ما يقول الغالي، لم يكن بالإمكان اتخاذ مواقف حماسية أو غر واقعية، لأن الغاية تبرر الوسيلة، وكان الهدف إطلاق سراح العسكريين وإنسحاب التنظيمات المسلحة من عرسال وتجنيب المنطقة معركة دامية، قد تؤدي إلى سقوط مئات الضحايا. ويعتبر الغالي أنه استناداً إلى هذا الأسلوب، تمكنوا من إطلاق سراح 13 عسكرياً في الفترة الأولى، ولكن بعدما ساءت الأمور، وجرى التصعيد، انسحب المسلّحون.
السؤال الأساس الذي يطرح في بعض الأوساط، والذي قد يشيح النظر عن المسألة الأساسية، هو عن كيفية الحصول على هذه الفيدوهات وتسريبها، خصوصاً أن بعض المطلّعين على ما يجري، يعتبرون أنه في هذه اللقاءات، كانت جبهة النصرة هي التي تصورّها، وكانت ترفض قيام أي طرف آخر بالتصوير. بالتالي، إذا ما كانت النصرة هي التي صورّت هذه الفيديوهات، يعني أن التسريب حصل من عندها. ويتحدّث البعض عن أن النصرة باعت الفيديوهات وأرشيفها لحزب الله، لكنها عملياً هي نظرية مستبعدة، لا أفق لها بحسب ما تؤكد مصادر متابعة. وتعتبر المصادر أن احتمالات التسريب ترتكز إما على خرق حزب الله النصرة وعناصرها. وهذا ما كان واضحاً في فترات معينة من الاشتباكات بين الطرفين. وهو ما يفسّر تسليم العديد من المقاتلين في صفوف النصرة أو داعش أنفسهم إلى حزب الله، لأن الحزب حقق اختراقات في صفوفهم، وعبرهم قد يكون حصل على الفيديوهات وغيرها. أما الاحتمال الثاني، بأن يكون الحزب حصل على هذه الفيديوهات، خلال المعارك الأخيرة، أو لدى دخوله المغاور ومقرات النصرة، ووجدها هناك، رغم أن ذلك احتمال ضئيل أيضاً، لأنه من الصعب ترك النصرة هكذا وثائق خلفها. فيما الاحتمال الثالث قد يكون بأن الأجهزة الأمنية أو العسكرية هي التي حصلت على هذه الفيديوهات.