لذلك هرولَ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في محاولةٍ لتحصيل مكاسب تلائم المصالح الإسرائيلية في اتّجاه واشنطن وموسكو.
ولذلك أيضاً تندفع السعودية لإيجاد مخارج ملائمة لإنهاء الحرب الدائرة في اليمن، إذ لا يمكن أن تترك إيران تتفرّغ بالكامل لليمن بعد إقفال الملف السوري، في وقتٍ تشهد فيه المملكة ترتيبات أساسية على مستوى السلطة.
وترى موسكو ومعها واشنطن أنّ النجاح في فصل المعارضة المعتدلة عن التنظيمات الإرهابية مهّد للانتقال الى مرحلة البحث في التسويات، وما عرف بإنشاء أربع مناطق وقف اطلاق النار، ومعها الترتيبات العملية لتقاسمِ مناطق النفوذ في سوريا.
لكنّ «ورشة» هذه الترتيبات لا تزال كبيرة ومعقّدة في العديد من أوجهها، وهو ما يتطلّب بعض الوقت لتركيز أسس وقف اطلاق نار شامل، والانتقال الى الصيغة السياسية الجديدة وهو ما يقدّره البعض بسنة أو ربما اكثر من ذلك.
ومن هذه المهمات المعقّدة، إنجاز الترتيبات في شمال سوريا، وبالتالي تحديد «ورثة» «داعش» في الرقة ودير الزور ومستقبل ادلب، ومن ضمن ذلك مستقبل الأكراد وما يطمحون اليه، وأيضاً مستقبل المناطق الغنية بالنفط في دير الزور حيث الصراع قائم حولها.
ومن هذه التعقيدات ما يُحكى عن ملحق للاتفاق الأميركي - الروسي يقضي بقيام قوات التحالف والمقاتلون الأكراد بعمليات شرق نهر الفرات، والسعي الى عرقلة تقدّم الجيش النظامي السوري الطامح للوصول الى الحدود مع العراق.
كل هذه التفاصيل الصعبة، إضافة الى غيرها، لن تؤدّي عملياً الى أيّ عودة الى الوراء، هو ما يعني أنّ حضور «داعش» «فوق الارض» آيل الى الزوال، أما استمرار نشاطه تحت الأرض فمسألة أخرى.
وفق هذه الصورة، حصلت معارك جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع أو بتعبير أوضح إزالة إمارتي «النصرة» و«داعش» وإنهاء الوظيفة التي كانت أوكلت في وقت سابق للإرهابيّين في هذه المنطقة من لبنان بالذات.
وفي المناسبة فإنّ أسراراً كثيرة اختزنتها السنوات الثلاث وربما السنوات الست لهذه المنطقة، والتي قد يؤدّي الكشف عن بعض منها الى تفاعلات قد تهزّ لبنان بالعمق، ما يعني أنّ السكوت من ذهب وأنّ أسرار جرود عرسال قد لا تُكشف قبل أن يمرّ وقت طويل وأن تكون النفوس قد بردت وأن تصبح المسألة محطةً تاريخيةً لا أكثر.
لكنّ السعي لإغلاق ملف الحرب في سوريا لا يعني أنّ الصراع على النفوذ انتهى، فالحرب وسيلة من وسائل صراع النفوذ، لذلك تستعدّ إسرائيل لجولة ضغط في سوريا لحجز أوراق لها، وهي ترى في الأكراد ساحة ممتازة للاصطياد في الماء العكرة.
في المقابل، نجحت إيران في استعادة حركة «حماس» وفي نسج خطة مشترَكة معها مبنيّة على قواسم مشترَكة حول الصراع مع إسرائيل والواقع في المنطقة. وكان معبّراً أن تعمد قيادة «حماس» الى الإعلان عن هذه العودة وإلى إرفاق ذلك بالإشارة الى بدء تجهيزها وتحضيرها للمعركة ضد إسرائيل.
وفي لبنان أيضاً، فإنّ إقفال ملف التنظيمات الإرهابية في الجرود لا يعني فصل لبنان عن أزمات المنطقة وصراعاتها. وجاءت بوادر المرحلة المقبلة سريعاً حيث اشتعلت أمنيّاً في مخيم عين الحلوة واحتدمت سياسياً على خلفية مسار المعركة العسكرية إضافة الى موضوع التطبيع مع دمشق.
ففي النقطة الاخيرة، بدا أنّ خطوات التطبيع ستقف عند هذا الحدّ، بعدما ظهر أنّ الصراعَ السياسي قابل للاشتعال داخل الحكومة، ما يُهدّد الاستقرار السياسي فيما لو تفلّتت الأمور من ضوابطها.
لذلك مثلاً عاد وزير الاقتصاد وعدل عن زيارته انسجاماً مع قرار الفريق الذي يمثله. ذلك أنّ الظروفَ لم تنضج بعد للتهيئة لخطوات من هذا النوع في المرحلة الراهنة، وستقف الأمور عند هذا الحدّ، ربما في انتظار تطوّرات داخلية تجعل مواقف الفريق المعارض أكثرَ ليونة ممّا ظهرت عليه أخيراً، وقد يجري التطرّق الى ذلك خلال وجود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في نيويورك لإلقاء كلمة لبنان في الأمم المتحدة، وذلك خلال لقاءاته مع زعماء الدول ولو أنه سيغيب عن العشاء الأساسي والذي سيحضره الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وبالنسبة إلى إقفال ملف العملية العسكرية وما تردّد عن وجود تنسيق بين الجيش و»حزب الله» أو عدمه، فإنّ مواقف الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية بدت مرتاحة لمسار العملية والتنسيق والجهوزية والقدرة التي بدا عليها الجيش اللبناني.
وتُدرك القيادة العسكرية الأميركية جيداً حصول تنسيق بين الجيش و«حزب الله» ولو بحدّه الأدنى وبمسائل لا علاقة لها بمتطلبات الميدان، فمثلاً سقطت قذائف على مسافات قصيرة جداً من مواقع الجيش ومواقع «حزب الله» رغم التنسيق الحاصل بحدّه الأدنى، ففي المعركة تختلط المسائل وتصبح الفوضى قابلة للحصول إذا غاب الترتيب الجيّد والمنظّم.
ويذكر أنّ السفيرة الأميركية والتي لعبت دوراً ناشطاً حظيت بتقدير المسؤولين اللبنانيين لواقعيّتها وخبرتها، والتي كسبتها سابقاً من خلال عملها في إحدى دوائر المخابرات المركزية الأميركية.
تبقى مسألةُ مخيم عين الحلوة، حيث اتّخذ القرار بإنهاء حضور «داعش» بشكل كامل، وتبقى الطريقة لحصول ذلك مدار نقاش، ذلك أنّ فكرة نقل هؤلاء الى سوريا سقطت، وبالتالي سيجري التعامل مع هذا الواقع وفق الوسائل المتاحة.
ويدور الهمس حول إنشاء غرفة عمليات مشترَكة للأجهزة الامنية اللبنانية، مهمّتها متابعة الوضع داخل المخيّم عن قرب. وقيل إنّ لقاءات عدة حصلت مع السلطة الفلسطينية لإنهاء هذا الملف، وما يُساعد في هذا الملف أنّ حركة «حماس» باتت مستعدّة لمؤازرة هذه الجهود، أولاً بسبب علاقتها الجديدة والقوية مع إيران وبالتالي مع «حزب الله»، وثانياً بسبب الصراع المستجدّ بينها وبين «داعش» الذي حاول اختراق قطاع غزة وإنشاء قواعد ثابتة له هناك.
لكنّ هذه المعالجات قد لا تكون كافية للاطمئنان الى ثبات الوضع الداخلي، ذلك أنّ الاجهزة الأمنية اللبنانية كما نصائح العواصم الغربية تركّز على أنّ «داعش» الذي انتهى كإمارة في لبنان سينطلق في عملياته الإرهابية كتعويض له، وهو ما يفعله عادة في حالات مماثلة.
وتعتقد خلاصة الدراسات للأجهزة الأمنية، بأنّ «داعش» سيركّز على «الذئاب المنفردة» التي في الغالب لا تحتاج سوى الى القليل من الدعم العملي خصوصاً أنّ لبنان نجح في المراحل الماضية في ضرب وتفكيك معظم خلايا التنظيم الإرهابي.
ولا تستبعد هذه المصادر أن يعمد «داعش» لاعتداءات بالشاحنات والسكاكين على غرار ما هو حاصل في بعض البلدان الأوروبية كتعويض عن تجفيف إمكاناته التفجيريّة وتراجع قدراته في هذا المجال.