الاقتراب من ساعة الصفر في القضاء على داعش لا يبعث الفرح في قلوب الأمريكيين بقدر ما يثير الخوف لديهم، ذلك ليس لأن أمريكا حليفًا مساندا لداعش كما يروج له الإعلام المقاوم، بل لأن إضعاف تلك الجماعة الإرهابية يؤدي إلى تقوية إيران وتعزيز موقعها الإقليمي وهذا ما لا يعجب الأمريكيين ويدفعهم إلى اتخاذ استراتيجيات بديلة لمنع الصعود الإيراني، يصل بعض تلك الاستراتيجيات إلى أبعد مدى من السخافة، ومن تلك الاستراتيجيات تلك التي يلحّ عليه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر الذي دقّ صفارة الإنذار بتطبيقه الطفولي لمبدء الواقعية السياسية في العلاقات الدولية الذي شكل بوصلة السياسة الخارجية الأميركية طيلة عقود، خاصة في العقود التي كان الجمهوريون يتولون الرئاسة.
إقرأ أيضًا: عودة السفير القطري إلى طهران ودلالاتها
يقوم مبدأ الواقعية على توازن القوى وأدى تطبيق هذا المبدأ إلى اتخاذ استراتيجية الاحتواء المزدوج حيال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لثمانية أعوام، فوفق تلك الإستراتيجية ارتأت الولايات المتحدة الأمريكية بأن انتصار الجمهورية الإسلامية على النظام البعثي سيؤدي إلى التفرد الإيراني على الساحة الإقليمية وصعود نجمها وتهميش دور حلفائها العرب في منطقة الخليج وربما تتحول إيران إلى مصدر تهديد لتلك الدول العربية، وكانت نتيجة تطبيق تلك الاستراتيجية السخيفة استمرار الحرب العراقية الإيرانية والحؤول دون سقوط واحد من الطرفين.
إقرأ أيضًا: التفتيش: الخارطة الأميركية الجديدة للقضاء على الإتفاق النووي
إن كسينجر لم يجد أي رغبة لدى الرئيس السابق بتلقي إرشاداته وكان مستاءا جدًا من عدم إكتراث أوباما له وعبّر عن استيائه بالقول بأن أوباما لم يستشيره ولا لمرة واحدة! ولكن يبدو أنه وجد آذانًا مصغية عند الرئيس ترامب وفريقه هم من أتباع مدرسة كسينجر ويستغل كسينجر هذه الفرصة لتوجيه تحذير لإدارة ترامب مفاده أن لا ترضى أمريكا بزوال داعش، حيث أن ما يترتب عليه أسوء بكثير من بقاء داعش.
لماذا تفضل اليمين الأمريكي داعش على إيران؟ لأن إيران قوة إقليمية كبيرة معادية، بينما داعش لا تمثل قوة كبيرة وإنما دويلة يمكن التخلص منها دون تكاليف باهظة، فضلا عن أن داعش لا تمثل مصدر تهديد للكيان الصهيوني وليس لديها عمق استراتيجي في المنطقة، بينما إيران تُعتبر مصدر إزعاج لهذا الكيان ولديها حلفاء أقوياء وأن القضاء على أعداء إيران ستؤدي إلى تقوية دورها الاقليمي.
بناء عليه يرى اليمين الأمريكي بضرورة انتهاج استراتيجية الإحتواء المزدوج، بينما زمن تطبيق تلك الاستراتيجية ولّى عملانيًا بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية التي لا يقيم الواقعيون السياسيون لها وزنًا.
إقرأ أيضًا: مقتدى الصدر يرفض عودة المالكي
من تلك الإعتبارات الأخلاقية هو أن داعش أصبحت مصدرا لتهديد حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم أكثر مما هي مصدر تهديد لإيران، فإنها تشكل خطرا للسعودية والأردن ومصر وبقية الدول العربية، والقضاء عليها سيريح الجميع بما فيهم إيران، ولكن العم سام يفكر من منظار الواقعية السياسية التي ترضى بقتل الحليف عند ما يتضمن تجريح العدو!
هاجس توسيع رقعة النفوذ الإيراني في المنطقة بعد التسوية في سوريا دفع برئيس الوزراء الصهيوني إلى زيارة مستعجلة لروسيا ولقاء الرئيس بوتين وإنذاره باستفحال النفوذ الإيراني على حساب النفوذ الروسي! وهكذا يحاول نتنياهو تطبيق وجه آخر لما تعلمه من أستاذه هنري كسينجر.
وفي غضون ذلك يبدو أن تصريحات السفير الأمريكي الأخير لدى سوريا أكثر مصداقية ودقة حيث اعتبر بأن الولايات المتحدة لا تتمكن من القيام بشيئ كثير في سوريا ويجب عليها أن ترضخ للواقع! وهذا مفهوم جديد للواقعية.