بَدا من المضاعفات التي أحدثتها عودة العسكريين المخطوفين شهداء ونغّصت الانتصار بتحرير الجرود من الارهابيين، انّ البلاد مقبلة على مرحلة خطيرة، بفعل تبادل الاتهام على مختلف المستويات بالتسبّب بخطف هؤلاء العسكريين وتصفيتهم، ما فتح ملف عرسال وقصتها مع الجيش اللبناني منذ بدايتها وحتى تحرير جرودها. وتخوّفت مصادر مطلعة من تعرّض الاستقرار العام لاهتزاز خطير تحت وطأة الخلافات السياسية التي عادت تستحكم نتيجة الخطاب السياسي الحاد المتبادل بين الافرقاء السياسيين، ما دفع البعض الى طرح علامات استفهام حول مصير الحكومة التي تجتمع فيها كل الاضداد تحت مسمّى «حكومة استعادة الثقة»، والتي جاءت نتيجة طبيعية للتسوية التي حملت العماد ميشال عون الى سدة رئاسة الجمهورية. ومع انّ البعض اشتمّ من السجال الدائر روائح مصالح إنتخابية، فإنّ المراقبين يرون انه لا يجوز اللعب بمصير البلد بهذا المستوى من التشنّج والضرب على الاوتار الطائفية والمذهبية لتحقيق مكاسب نيابية لم يحن أوانها بعد.
كل المؤشرات تدل انّ لبنان بدأ يستعيد زمن الانقسامات الوطنية التي عرفتها البلاد بين 8 و 14 آذار، والتي تراجعت حدّتها مع دخول «حزب الله» في الحرب السورية وتركيز اهتمامه على اولوياته الخارجية، فيما من الواضح انّ الخلافات عادت تتخذ التموضع القديم نفسه، والذي كان البعض اعتقد انه قد ولّى مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.

واذا كان الخلاف حول التنسيق مع النظام السوري او عدمه قد بلغ ذروته، فإنّ التباين الذي برز بفعل التسوية - الصفقة مع إرهابيي «داعش» ما زال يتفاعل وبحدة لافتة تؤشّر إلى طبيعة المرحلة التي دخل فيها لبنان، والتي تنذر بتداعيات وتفاعلات ومضاعفات خطيرة في حال لم يتم تدارك الوضع سريعاً وإعادة الاتفاق على الأولويات وتحييد القضايا الخلافية وترسيم حدود اللعبة السياسية.

وهذا الواقع المستجد دفع بعض الاوساط السياسية الى طرح أسئلة كثيرة أبرزها: هل ستتمكن الحكومة من الصمود طويلاً اذا تطور الانقسام وتفاعل؟ وما هو موقف رئيس الجمهورية؟ وهل سينجح في إنقاذ عهده من انقسام يعيد شَلّ المؤسسات وتعطيلها؟

والى كل هذه الاسئلة يبقى السؤال الأساس الذي ورد على كل شفة ولسان: هل يعقل ان يعود من قتل العسكريين وروّع اللبنانيين الى جبهته في باصات مكيفة وحماية مؤمنة وان يعود المخطوفون الى أهلهم وشعبهم في توابيت وبشعور من الخيبة والاحباط بعدما كان الجيش أعاد بمعركته العزّة والكرامة الى اللبنانيين؟

وعلى وقع سؤال اللبنانيين عمّن يتحمّل مسؤولية مقتل العسكريين الذين أسرهم تنظيم «داعش» في 2 آب 2014، والاتهامات المتبادلة بين القوى السياسية بالتقصير في ملف العسكريين، والمطالبات بفتح تحقيق، وحملات البعض ضد حكومة الرئيس تمام سلام واتهامها بالتقصير في واجباتها منذ اختطاف العسكريين في 2 آب 2014، ردّ رئيس الحكومة سعد الحريري على المتحاملين على سلام في تغريدة له عبر «تويتر»، قائلاً: «لا أتذكر أنّ المتحاملين على تمام بك سلام اليوم، انسحبوا من حكومته يومها احتجاجاً على ما يزعمونه الآن». وأضاف: «‫تمام سلام أعلى من أن تصيبه سهام المتحاملين. كنّا إلى جانبه وسنبقى... «ولحد هون وبس».

الجيش وعلم لبنان

ومع انكفاء النشاط الرسمي مع دخول البلاد في مدار عطلة عيد الاضحى المبارك الذي يصادف بعد غد، ظلت الكلمة للميدان، فاستكملت وحدات الجيش انتشارها في منطقة وادي مرطبيا ومحيطه بعد تأكد خلوّها من عناصر «داعش»، ورفعت العلم اللبناني فوق قمم حليمة قارة وعقابة مرطبيا وحليمة القبو، التي تشكّل المرتفعات الأعلى في المنطقة، فيما تعمل الفرق المختصة في فوج الهندسة بمسح الأراضي لكشف العبوات والألغام والأجسام المشبوهة التي خلّفها الإرهابيون والعمل على معالجتها.

وأكّدت مصادر عسكرية لـ«الجمهورية» أنّ «الجيش لم يدخل في أي تسوية مع «داعش» وهو كان يحضّر لانطلاق المرحلة الرابعة من عملية «فجر الجرود»، لكنّ الإرهابيين هربوا من الأراضي اللبنانية الى سوريا واستسلموا لـ«حزب الله» والنظام السوري، وهما اللذان أبرما التسوية مع «داعش» وليس الجيش اللبناني الذي كان مصمّماً على القضاء عليهم وتحقيق العدالة للعسكريين الذين استشهدوا.

وبالتالي، عندما لمسوا حزم الجيش اللبناني اتخذوا القرار على ما يبدو بإبرام صفقة مع «حزب الله» والنظام السوري بعدما وعدوهم بعدم المسّ بهم وتسوية أوضاعهم ونقلهم الى دير الزور».

وأشارت المصادر الى أنّ «الجيش وصل الى آخر النقاط على الحدود اللبنانية ـ السورية، وباتت كل جرود القاع ورأس بعلبك وعرسال خالية من الإرهابيين»، وأوضحت أنّ «الجيش يعمل الآن على تثبيت نقاط ومراكز دائمة من أجل حماية الحدود ومنع تسلل الإرهابيين أو المخرّبين».

واكدت أنّ «الانتشار العسكري في الجرود سيكون كثيفاً، والمراكز ستكون مترابطة عسكرياً، إذ إنه سيبقي على حالة الاستنفار الدائم على رغم التأكّد من خلو المنطقة من المسلحين، فيما عمليات المسح من الألغام قد تستغرق بعض الوقت لأنّ الجرود شاسعة والجيش لا يملك خرائط الألغام التي زرعها الإرهابيون».

وركّزت المصادر على انّ «النقاط الحدودية ستكون دائمة، ولا مجال لعودة الوضع الى ما كان عليه سابقاً».

وبالنسبة الى إقفال ملف العسكريين المخطوفين وجثمان الجندي عباس مدلج، فقد أكدت قيادة الجيش أنه «نتيجة متابعة البحث عن مصير عسكريين مفقودين، تمّ في وقت سابق العثور في جرود عرسال على رفات أحد الأشخاص. وعثرت أمس وحدة من الجيش في منطقة الرهوة ـ جرود عرسال، على رفات آخر عائد لأحد الأشخاص، وتخضع عيّنات من الرفات لفحوص الـ«DNA» اللازمة بإشراف القضاء المختص».

وكان المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم جزم أمس بأنّ الرفات «تعود للعسكريين، وإنّ النتيجة العلمية التي ستقطع الشك باليقين ستصدر قبل نهاية الاسبوع».

العبادي

في هذا الوقت، أعرب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن رفضه الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بين «حزب الله» و«داعش» في شأن نقل مسلحي هذا التنظيم الإرهابي من لبنان إلى الحدود السورية ـ العراقية. واكد عدم قبول بغداد بنقل «أعداد كبيرة» من عناصر «داعش» من الحدود اللبنانية ـ السورية إلى المناطق الحدودية مع العراق.

«التيار»

وقال رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل إنّ «مشروع الارهاب في لبنان سقط و«عقبال» مشروع النزوح ثم مشروع التوطين». ولفت الى أنّ «موقفنا في مجلس الوزراء عام ٢٠١٤ معروف عندما رفضنا التمديد غير القانوني لقائد الجيش جان قهوجي، فهل فهمتم ايها اللبنانيون لماذا كنّا نطالب بقائد جيش جديد يكون قادراً على تحمّل مسؤولياته؟».

وطالب «من سمح بالارهاب سابقاً بـ«السكوت اليوم والتكفير عن خطاياهم بالمساعدة في حل موضوع النزوح». ودعا الى المشاركة في احتفال «حزب الله» في البقاع غداً «لأننا شركاء في النصر». كذلك دعا «الجميع ومن ضمنهم «حزب الله» الى «المشاركة في الاحتفال الذي ستقيمه الدولة».

«القوات»

وسأل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع «عن سرّ الصفقة التي تمت بين «حزب الله» و«داعش»؟ مشيراً الى أنه «كان في إمكان الحزب «ان يقوم بالصفقة واستعادة أسراه بعد ان يطرد الجيش اللبناني «داعش» كلياً من الأراضي اللبنانية».

واعتبر أنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله «حاول مصادرة المشهد بإطلالات إعلامية مكثفة»، سائلاً: «ألم يكن ما تحقّق انتصاراً للشعب اللبناني حتى تتمّ مصادرته على يد حزب واحد»؟

«الكتائب»

ومن جهته طالبَ رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميل بـ«تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لكشف هوية من وقف وراء عدم حسم معركة عرسال عام 2014، ومن يقف وراء الصفقة التي حصلت في معركة رأس بعلبك» مجدداً ثقته بالجيش اللبناني «الذي قدّم التضحيات فيما غيره تولّى التفاوض».

وسأل «السلطة السياسية الغائبة عمّن كلّف «حزب الله» التفاوض خلال المعارك واذا ما حصل ذلك، فبأيّ جلسة لمجلس الوزراء»، وقال: «اذا كانت السلطة مستقيلة من عملية الدفاع عن لبنان والوقوف الى جانب الجيش فلتَستقل كلياً وتُستَبدل بأشخاص حريصين على سيادة لبنان واستقلاله».

«المستقبل»

واستنكرت كتلة «المستقبل» بشدة «الموقف المخادع الذي اعتمده «حزب الله» تجاه الفصل الأخير من المواجهة التي خاضها الجيش اللبناني ببطولة ومهنية عالية ضد التنظيم الإرهابي «داعش» في جرود القاع وراس بعلبك».

واعتبرت انّ الحزب حاول «عبر حديث أمينه العام، جرّ الدولة اللبنانية الى تنسيق علني مع النظام السوري فيما يقوم الحزب والنظام السوري بالتفاوض مع «داعش» على جثامين شهداء الجيش اللبناني على هامش مفاوضاتهم لاسترجاع أسراهم وجثامين قتلاهم». ورأت «انّ فصول اليومين الماضيين كشفت حقيقة «حزب الله» الذي يخشى من تعزيز قوة الجيش اللبناني ومن قوة الدولة اللبنانية التي يريدها أن تبقى ضعيفة ومستضعفة تحت جناحه وإملاءات الولي الفقيه».

الحريري

وفي هذه الاجواء، تشخص الانظار الى باريس التي يزورها الحريري غداً. وعشيّة هذه الزيارة، أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أنه دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى «زيارة دولة» لباريس. كذلك اعلن انه سيزور لبنان في الربيع المقبل في اطار جولة له في منطقة الشرق الاوسط. وقال في خطاب خلال الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا في العالم: «أريد أن اؤكد تمسّكنا بالبلدان التي تشهد الانقسامات والتوترات في المنطقة.

وسألتقي قريباً رئيس وزراء لبنان ورئيس الجمهورية الذي سيقوم بزيارة دولة الى فرنسا». وأضاف: «انّ لبنان، الذي يعيش وضعاً حرجاً يواجه بشجاعة وشعور كبير بالمسؤولية، تريد فرنسا دعمه وذلك باسم علاقاتنا التاريخية».

«اليونيفيل» والـ1701

على صعيد آخر، وعشيّة تصويت مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار فرنسي بتجديد انتداب قوات الأمم المتحدة المؤقتة العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل)، غرّد وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عبر «تويتر» قائلاً: «المحافظة على ولاية اليونيفيل ضرورة للسلام والاستقرار، غير ذلك بعثرة لجهود الامم المتحدة».

واستدعى باسيل ممثلي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وممثل الأمين العام للأمم المتحدة لتأكيد موقف لبنان الثابت لجهة التزام لبنان التام قرار مجلس الأمن الرقم 1701 بكل مندرجاته، وتثمينه الدور المحوري الذي تؤديه قوات «اليونيفيل» بالتعاون مع الجيش اللبناني في إرساء الإستقرار في جنوب لبنان، ما يؤكد وجوب تمديد ولايتها تقنياً على النحو الذي ساد منذ صدور القرار 1701 بلا أي تعديل في مهماتها، مع التشديد على أنّ الأولوية في أي مشروع تعديل يجب أن تُعطى دوماً لتأمين استمرارية نجاح قوات «اليونيفيل» في أداء مهماتها، وذلك من خلال درس متأنٍ لمجمل عوامل نجاحها في الحفاظ على الاستقرار في منطقة عملياتها، خصوصاً أنّ الهاجس الأساسي الذي يجب أخذه في الإعتبار لدى مقاربة أي مشروع تعديل يبقى كامناً في الإعتداءات والخروقات الإسرائيلية اليومية للقرار الأممي وللسيادة اللبنانية.