لذلك، حاول الجميع فوراً غسل اﻷيدي «من دماء هؤﻻء الصدّيقين». وهذا طبيعي. فالنصر له آباء كثيرون، فيما الهزيمة يتيمة. ويتبارى الجميع في دعمهم الجيش، لكنّ أحداً لا يعترف بدوره أو مسؤوليّته عن إدخال «داعش» وأخواتها إلى لبنان واحتلالها الجرود.. ثمّ مسؤوليّته عن عملية الخطف وتكبيل الجيش ووقوع الكارثة!«شهرُ العسل» الوطني الذي رافق اﻷيامَ اﻷولى من عملية الجيش لتحرير جرود القاع- رأس بعلبك انتهى في اﻷيام اﻷخيرة. وهذه ميزةٌ لبنانية بامتياز: إطلاق المواقف الوطنية الحماسية «فولكلورياً»… لتغطية أمور أخرى لا يجرؤ أحدٌ على مواجهتها!
وبدلاً من انتظار الجيش يعلن انتصارَه الغالي الثمن على اﻹرهابيّين، باشرت القوى السياسية والطائفية استثمارَ هذا الانتصار. وتبيّن أنّ دعمَ كلٍّ منها للجيش يرتبط بحسابات خاصة، وأنّ الجميع يتقاطعون على ضرب اﻹرهاب، ولكن، لكلٍّ منهم منطلقاته وأهدافه.
الواضح أنّ هناك مَن تَقصَّد إطلاقَ المعركة السياسية قبل انتهاء الحرب... وحتى قبل إعلان الحداد العام على الشهداء العسكريين. وكأنّ هناك رغبةً في تغيير الحالة الوطنية العامة. وبدلاً من التلاقي في المزاج التضامني مع الجيش، نشأ مزاجٌ انْقسامي حول أداء المؤسسات الوطنية والسلطة السياسية.
وفي القراءة السياسية، يعني ذلك كثيراً من الخيبة. فالخلاف الحاصل أعاد صورة اﻻنقسام التي لطالما كبّلت الجيش في مهماته الوطنية الكبرى، على مدى تاريخه، والتي راهن كثيرون على نسيانها بعد انتصار الجيش على اﻹرهاب. وفي الفترة المقبلة، سيبلغ اﻻستثمار السياسي لعملية الجرود مداه اﻷقصى، وسيتحوّل أزمةً سياسية، وإن لم تهدّد الحكومة واﻻستقرار ﻷنهما من الخطوط الحمر دولياً.
ليس مناسباً اختصارُ المشكلة بإقدام «حزب الله» على صفقة التبادل اﻷخيرة مع «داعش»، وشمولها رفات العسكريين المخطوفين، بدلاً من أن يترك للجيش استكمالَ معركة التحرير. فدور «الحزب» بقي ثابتاً في المعركة، منذ اللحظة اﻷولى، وإن بقي مكبوتاً، بسبب حرص الجيش على عدم إثارة الحساسيات.
لقد ضبط «الحزب» كل الساعات على ساعته في معارك التحرير. فهو باشر عملية جرود عرسال قبل انطلاق الجيش في معركة القاع - رأس بعلبك، ثمّ أطلق عمليّته المشترَكة مع الجيش السوري في القلمون في لحظة انطلاق عملية الجيش. وعندما وصل الجيش اللبناني إلى مربّع «داعش» اﻷخير، سارع «الحزب» إلى صفقة مع «داعش» أنهت الحرب.
ومع انكشاف أنّ العسكريين المخطوفين قد استشهدوا، بادر «الحزب» إلى شنّ حرب استباقية على خصومه، محمِّلاً إياهم المسؤولية عن بلوغ الكارثة. فـ«الحزب» علِمَ باكراً بمصير العسكريين، وبالساعة التي سيتمّ فيها كشفُ الحقيقة، بحكم مفاوضاته مع «داعش». ولذلك، أُتيحت له الفرصة للمسارَعة إلى توزيع سيناريوهات تحمّل فريق 14 آذار، وتحديداً الرئيس تمام سلام، المسؤولية عمّا حدث.
وكان هدف «الحزب» هو الردّ مسبَقاً على حملات خصومه التي تتّهمه بأنه هو الذي تسبّب باستدراج «داعش» وأخواتها إلى لبنان، عندما ذهب يقاتل مع اﻷسد في الداخل السوري، وعندما جعل الحدود اللبنانية - السورية مستباحةً للخرق في اﻻتجاهين.
وفي شكل ضمني، تدور شكوكٌ في أوساط الكثيرين حول 4 نقاط:
1 - وجود ارتباط ما بين «داعش» ونظام الرئيس بشار اﻷسد، سواءٌ كان مصلحياًَ عابراً أو مخططاً له.
2 - وجود رغبة لدى «الحزب» في إخضاع عرسال بصفتها جزيرةً سنّية في البحر الجغرافي الشيعي.
3 - في لحظات معيّنة، استفادت «داعش» من خوف المدنيين في عرسال من «حزب الله».
4 - في مراحل عدة، دعمت قوى عربية «داعش» و»النصرة» لضرورات مختلفة.
ولا يمكن إدراكُ الخلفيات الكامنة وراء التطورات التي جرت في الجرود، على مدى 6 سنوات مضت، من دون التعمّق في مدى صحّة الشكوك حول
هذه النقاط.
وفي أيّ حال، هناك أخطاء وخطايا ارتكبها الجميع في مسائل «داعش» والسيادة الوطنية ودور الجيش اللبناني في تلك المنطقة، مداورةً، إما بالقصد، وإما باﻹهمال والتساهل، كلٌّ لمصلحته الفئوية، واﻷرجح أنه ما زال يرتكب عدداً منها على رغم اﻷكلاف المدفوعة. و»مَن مِنكم بلا خطيئة فليرجمْها بحجر»!
على رغم ذلك، سيحاول الجميع استثمارَ حرب الجرود سياسياً لتثبيت المواقع في الداخل. لكنّ اﻷقوى سيكون «حزب الله» وفريق 8 آذار الذي سيعمل على تدعيم التواصل بين لبنان الرسمي ودمشق - الأسد.
وكالمعتاد، وفيما سيجيّر «الحزب» الضغط السياسي الذي سيمارسه في خدمة المحور اﻻستراتيجي الذي ينضوي فيه، سيقوم آخرون من داخل 8 آذار و14 آذار بتسخير معاركهم لتحقيق غايات ومكاسب شخصية.
وكما خاض كثيرٌ من الطامحين معاركهم الصغيرة لتثبيت الموقع خلال عملية تشكيل الحكومة الحالية، كذلك هناك مَن بدأ يستثمر، صراحة، معركة الجرود لتثبيت الموقع في الانتخابات النيابية المقبلة. ولذلك، ستختلط المصالح الكبرى بالمصالح الصغرى في المعركة الآتية، وهي ستكون قاسيةً في أيّ حال.