لن يكون مستغرَباً أن تنشغل الحكومة اللبنانية وقيادة الجيش في الفترة المقبلة التي ستلي إعلان النصر على الجيب الأخير للمجموعات الإرهابية من «داعش - لبنان» باستقبال وفود خارجية للوقوف على مجريات العمليات العسكرية وما رافقها لإغناء المكتبات العسكرية بكثير من الدروس والعبَر والتجارب الميدانية على كل المستويات العسكرية والتقنية وما يتصل بحقوق الإنسان في آن.
فقد شهدت الجرود اللبنانية في عملية «فجر الجرود» تجربة فريدة عندما عاشت فيها مجموعة إرهابية كانت عصيّةً على دولتين وجيشين نظاميَّين، الأولى لبنانية بالإنكفاء السياسي لسنوات عدة نتيجة التفسّخ السياسي وغياب المرجعية الرئاسية، والثانية بانشغالها في حروبها الداخلية الى حدود إقترابها من الإنهيار لمصلحة قوى خارجية تدخّلت لإنقاذها في ربع الساعة الأخيرة فانحصرت المواجهة بين مجموعات عسكرية غير نظامية موالية ومعارضة نمت بدعمٍ مخابراتي معلن وسرّي من مختلف الاطراف المتورّطة في الحرب السورية في آن.
وليس في الأمر سرّ أنّ كل ما حصل كان مردّه فقدان الحكومة السورية سيطرتها على معظم حدودها الدولية مع دول الجوار ما خلا لبنان حيث تولّت قوى لبنانية وسورية استُحدثت للحضور والتحكّم بها بعد إلغائها من قاموس الجغرافيا فتحوّلت مشاعاً لها.
وفي بيئة غابت عنها القوى العسكرية والأمنية المكلّفة بأمن الحدود بين أية دولتين مستقلّتين لا بل كانت في مواجهة مجموعات مسلّحة تنطلق من لبنان لتدخل الأراضي السورية وبالعكس فتنتقل بكل اسلحتها الثقيلة والمتوسطة وعتادها بين جيبين بلا أيّ رادع تحت شعارات أممية عدة لا تتصل بهويّتها الوطنية.
وعليه فقد تحصّنت مجموعات إرهابية في جرود قاحلة وأطراف قرى دولتين على مقربة من مجموعة من المخيّمات التي غصّت بالنازحين واللاجئين السوريين وانتشرت عشوائياً بلا أيّ إشراف لبناني رسمي وتحوّلت قاعدة تموين ولجوء ليلي لعائلاتهم الى ان نمت وكأنها «مستوطنات» كاملة المواصفات بإشراف دولي وإقليمي تحت شعارات إنسانية أممية ودولية تحاكي بعضاً من مواصفات الثكن العسكرية التي نمت في مناطق محرَّرة من أيّ قيد أمني أو عسكري مسؤول ورسمي.
وامام هذا الواقع الذي تداخلت فيه اللغة السياسية باللغة العسكرية والديبلوماسية وتحكّمت المعادلات الدولية والإقليمية بها، فمنحت هذه التجمّعات حصانات كانت تفتقدها وباتت عاصية على الجميع ترسم فوقها الخطوط الحمر من أكثر من جانب، الى أن تمّ التوافق الدولي على وضعها على لائحة الإرهاب الموحّدة بين القطبين الروسي وحلفائه والأميركي وحلفائه فتحوّلت لقمةً سائغة بين ليلة وضحاها بكلفة زهيدة عبّرت عنها عملية «فجر الحدود» خير تعبير، فنجح الجيش اللبناني بتقنيات عسكرية حديثة وُضعت في تصرّفه من تدمير قواها القتالية ومعظم أسلحتها قبل أن تطاردها القوى البرّية حتى الحدود السورية.
وعلى هذه الخلفيات وانطلاقاً من الإهتمام الدولي بالقضاء على «داعش» وشبيهاتها من «النصرة» و»جيش الإسلام» و»أحرار الشام»، الى ما هنالك من التسميات التي كانت تتبدّل بين معركة وأخرى بفعل عوامل عسكرية وسياسية ومادية، بات الإنتقال من محور الى آخر محطات طبيعية لا يستغربها أحد طالما وصلت بها الأمور الى رغبة قيادة «داعش – لبنان والجرود» بالإنتقال الى الداخل السوري وليس الى مناطق «داعش» التي تسيطر عليها تحت غطاء «المصالحات» المفتوحة على طريق العفو الرئاسي المعتمد لتسوية أوضاع المسلّحين في مناطق خفض التوتر وغيرها حيث خطوط التماس المرشّحة للزوال بين قوّتين موالية ومعارضة.
والى هذه الظروف التي تحكّمت بكثير من مناطق التوتر تستعدّ بيروت لاستقبال وفود أميركية وأوروبية مختلفة من الدول المانحة للجيش والمؤسسات العسكرية بناءً على توصيات مكاتب بعثاتها الثابتة في بيروت، ولا سيما منها البريطانية والأميركية والتي تشرف على التنسيق المباشر بين الجيش وهذه الدول على خلفية استخدام الأسلحة الحديثة التي وُضعت في تصرّفه للمرة الأولى ولا سيما منها السيارات الخفيفة المخصَّصة لحرب الجرود وحاملات المدفعية الذكية وكاسحات الألغام، كذلك بالنسبة الى الأبراج التي بُنيت على خطوط الجبهة السابقة والتي باتت في عمق الأراضي اللبنانية بعد السيطرة على عشرات مئات الكيلومترات المربّعة المحتلّة.
وكان لافتاً ما تضمّنته تقارير رُفعت من مكتب التعاون الأميركي الى قيادة المنطقة الوسطى الأميركية والبنتاغون، ويبدو أنّ وفداً من هذه المنطقة سيكون الأول بين الزوار المحتملين للبنان للوقوف على ما أحدثه الجيش بواسطة هذه التقنيات العسكرية وما ابتدعته القيادة من تحسينات رفعت من جهوزية الجيش في إستخدام هذه الأسلحة بأفضل الطرق والوسائل، الى الدرجة القصوى، وهو ما ترجم قراءة تعزّز مواصلة الجيش الأميركي مستثمراً كبيراً في الجيش اللبناني والمؤسسات العسكرية.
والى الزوّار الأميركيين ستصل بعثتان أُخريان واحدة فرنسية ستكون في بيروت بعد زيارة الرئيس سعد الحريري المرتقبة في عطلة عيد الأضحى الى باريس، وأخرى بريطانية لتقويم الخطوات اللاحقة من المساعدات البريطانية وسبل تنفيذها.
وعلى خطٍّ موازٍ يبدو أنّ من بين الزوار المرتقبين الى بيروت زيارة استثنائية لوزير الخارجية الروسية منتصف أيلول المقبل والتي حُدِّدت لأهداف سياسية وعسكرية ستكون متمِّمةً للجولة التي سيبدأها في دول الخليج العربي والأردن، وإن جاء موعدها منفصلاً لبعض الوقت، إلّا أنّ بيروت على لائحة جولاته الخارجية في دول المنطقة المتأثرة بالأزمة السورية والتي سيُبنى عليها كثير من التوجّهات الروسية في الفترة المقبلة.