جرى التداول بالأمس في معلومات وأخبار، تشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تتجه إلى تخفيض العقوبات التي ستفرضها على حزب الله، في القانون الذي يقره الكونغرس الأميركي في الخريف المقبل.

الخبر ليس حديثاً، يعود إلى زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى واشنطن ولقائهما المسؤولين الأميركيين. في تلك الزيارة شدد الحريري على وجوب عدم توسيع دائرة العقوبات لتشمل فئات شعبية أو اقتصادية واسعة. وطالب بتحديد أسماء الأشخاص المفروضة عليهم العقوبات، والتي يمنع على المصارف التعامل معها، أي أن لا تشمل هذه العقوبات المصارف والمؤسسات المالية أو أي عامل عادي في أي مؤسسة تعود للحزب، بالإضافة إلى تجنيب المؤسسات الخيرية أو الطبية تلك العقوبات.

هذا مكمن التعديلات التي أدخلت في قانون العقوبات بعد زيارات لبنانية عديدة إلى المسؤولين الأميركيين. بالتالي، فإن التداول في هذا الخبر لم يكن بريئاً، وللسياسة حاجة في ترابط الأحداث ببعضها البعض. فتزامن الحديث بهذا الخبر، مع انتهاء ملف العسكريين المخطوفين أو معركة فجر الجرود ضد تنظيم داعش، بصفقة مع حزب الله تقضي بكشف مصير العسكريين وتسليم الحزب أسيراً وجثثاً لمقاتليه، مقابل فتح طريق لعناصر داعش للإنسحاب إلى شرق سوريا، وما أعلن فيما بعد عن اجراء إتصال هاتفي بين رئيس الجمهورية ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، للتداول في هذه القضية، وما أطلق عليه "هزيمة تنظيم داعش" في الجرود اللبنانية، فإن هذه الأحداث الثلاثة لا تنفصل عن بعضها البعض.

منذ فترة يعيش لبنان حالة تعميم اجتماعي صانع للانتصارات، منذ المعركة ضد جبهة النصرة، إلى معركة فجر الجرود. ليس هنا المجال لتقييم النتائج، ولا تحتمل هذه السطور أي فسحة للمزايدة، إنما في قراءة واقعية ومترابطة لما يجري في لبنان، ربطاً بما يجري في تحولات في المنطقة، تشير إلى حجم التقاء المصالح بين مجموعة متناقضات، دولية ومحلية، شرعية وغير شرعية. وهذا ما يعززه الخبران، خبر تخفيف العقوبات على حزب الله، وخبر اتصال نصرالله عون.

لا شك في أن حالة الانتصار الجماعي والاجتماعي، تشيح النظر عن التفكير في غير ما هو متداول أو دعائي. وإنسجاماً مع هذه الفكرة، دار النقاش في الأيام الماضية حول كل ما هو هامشي سياسياً، كالنقاش المتعارض حول وجود تنسيق بين الجيش اللبناني وحزب الله والجيش السوري في هذه المعركة. البعض يؤكد ويؤيد، والبعض الآخر ينفي ويرفض، فيما النقاش الحقيقي ليس هنا، لأن الوقائع تقرأ من النتائج، وليس من الأقوال والتصريحات. وكان واضحاً الدخول الأميركي على خطّ هذا التجاذب من خلال تغريدات حساب السفارة الأميركية في لبنان الداعمة للجيش وحده دون أحد غيره في هذه المعركة وفي حماية الحدود والأراضي اللبنانية.

ثمة وقائع تشهدها المنطقة العربية منذ اجتياح العراق، أو حتى منذ اجتياح أفغانستان، نتيجتها الأساسية جملة عوامل ترتكز على تلاقي مصالح بين قوى متناقضة، تستهدف في تجلياتها، البنى السياسة والاجتماعية والفكرية للقوى المجتمعية الأكثرية أو ذات الغالبية في هذه المنطقة. وهذا مستمر إلى اليوم، وتوضحه الأخبار الثلاثة التي تعممت على شكل واسع يوم الأحد.

ظهر حزب الله في موقع من حتّم فتح معركة الجرود منذ فتحه المعركة ضد جبهة النصرة، وأنهاها بتسوية. بالتالي، هو الذي دفع في اتجاه القرار السياسي لشنّ معركة جرود رأس بعلبك والقاع. وفي النهاية، عاد هو وأبرم صفقة جديدة مع تنظيم داعش، بعدما كان ممنوعاً من التفاوض ومعه رئيس الجمهورية. حصل الاتفاق واستلحقت الدولة اللبنانية للتطبيع أو للموافقة عليه، تماماً كما كان دور النظام السوري، أي الموافقة على السماح بانتقال مسلحي داعش من الجرود اللبنانية إلى دير الزور.

ولم يكن في امكان حزب الله شنّ المعركة ضد النصرة بدون غض نظر دولي وإقليمي، فلم يكن بإمكانه شن المعركة ضد تنظيم داعش بدون الأمر نفسه. لو أراد من يعلن إصراره على تحجيم نفوذ إيران وحزب الله في سوريا أن يفعل ذلك فعلاً، لما استخدم طائرات التحالف الدولي للقضاء على التنظيم الإرهابي في الجرود، وبالتعاون مع الجيش اللبناني، ولم يكن من حاجة إلى الجدل بشأن حصول تنسيق بين الجيش والحزب من عدمه. وعملياً، لم يتم القضاء على التنظيم، إنما تم نقله من منطقة إلى أخرى، لاستثماره هناك، تماماً كما كانت حال استثمار هذا التنظيم على مدى السنوات الماضية، في سوريا والعراق، بهدف تركيع الغالبية المجتمعية، أو تهجيرها وإبادتها، أو جعلها تبحث عن فرصة تثبت فيها براءتها من الوحشية التي صنعت للتنظيم.

عنوان قتال حزب الله في سوريا يرتكز في أساسه على مواجهة التنظيمات الإرهابية والفكر التكفيري. وهذا العنوان نفسه يجتمع عليه العالم كله. كان حزب الله يقول منذ فترة طويلة إنه الطرف الأول الذي يقاتل الإرهاب، وبالتالي لا يمكن لواشنطن أو غيرها تصنيفه إرهابياً أو التعاطي معه على هذا الأساس. الجو الإقليمي والدولي والموازين السياسية، هما ما منح الحزب هذا الدور، وقد نجح الحزب في أدائه حتى النهاية. الحدود الجنوبية في سوريا ولبنان هادئة، والمعارك التي تريد تحقيقها دول ومحاور، تولاها الحزب في الداخل السوري بمفرده. واللافت أكثر في ذلك، هو أن الحزب يحقق كل هذه النقاط، في ظل ثرثرة أميركية ودولية، بأنها ستواجهه لأنه تنظيم إرهابي، وأنها لن تسمح ببقائه أو بقاء إيران في سوريا، لكن الكلام شيء والواقع شيء آخر.

في القراءة الموضوعية، والبعيدة عن الكلام ذي السقف المرتفع، وعن تحجيم نفوذ إيران وإنهاء حزب الله، أو إعادته إلى لبنان، فإن الواضح، هو أن حزب الله، أصبح ولو نظرياً، أحد أبرز صنّاع الفرز السياسي والديمغرافي الجديد الذي تشهده المنطقة وخصوصاً سوريا. بالتالي، فإن الكلام الذي يحكى عن طرد إيران من سوريا في الأشهر المقبلة، لا يخرج عن سياق الكلام، الذي يشبه معارضة واشنطن لشن حزب الله أي معركة في سوريا، فيما هو عمل على وصل لبنان بإيران جغرافياً.

ليس صدفة إعلان تخفيض العقوبات الأميركية على الحزب في الإعلام، من فعل ذلك يريد الإشارة إلى أن الحزب يكافأ على جهوده ضد الإرهاب، وكل الجدل حول نفي التنسيق أو تأكيده، وحول ما طلبه نصرالله بضرورة التنسيق مع النظام السوري لكشف مصير العسكريين، مجرّد كلام بعد الاتصال الذي حصل بين عون ونصرالله. فالاتصال بمثابة مباركة رسمية من رأس السلطة اللبنانية لما قام به الحزب. وتلك المباركة تحمل كثيراً من الدلالات المحلّية وغير المحلية. وتداعياتها لن تقف عند حدود المطالبة بإعلان عيد ثان للتحرير، بل بما هو أكبر من ذلك بكثير في السياسة. هو فن تحويل الهزيمة إلى انتصار، من تحويل إنتقال آمن للدواعش من غرب سوريا إلى شرقها، إلى حديث بشار الأسد عن انتصاره بإنتاج فئات شعبية "متجانسة" بعد عمليات تهجير وإبادة. وهذا كله جري تحت مرأى العالم وتحت طائرات من المفترض أن تقضي على داعش لا أن تراقب إنتقاله من منطقة إلى أخرى.