بعد ثلاث سنوات من اعتداء إرهابيي «داعش» و«جبهة النصرة» على القوى الأمنية اللبنانية في بلدة عرسال واختطاف عسكريين لبنانيين، أدّت اعترافات إرهابيين من «داعش» إلى الكشف عن مصير ثمانية عسكريين لبنانيين، كان التنظيم قد قتلهم بعد فترة من اختطافهم.
وعلى رغم النهاية المأسوية لهذا الملفّ، وانتظار الأهالي طويلاً لمعرفة مصير أبنائهم الشهداء، إلّا أن التضحيات التي بذلها رفاقهم في الجيش اللبناني والجيش العربي السوري والمقاومة، ودور اللواء عبّاس إبراهيم وضباط الأمن العام، أثمرت أخيراً كشفاً عن مصيرهم، ووضع حدّ لهذه المعاناة اليومية.
عند الساعة السابعة صباحاً، أعلن الجيشان اللبناني والسوري وحزب الله وقفاً متزامناً لإطلاق النار في معركتي «فجر الجرود» و«إن عدتم عدنا» التي تخاض ضد من تبقّى من إرهابيي «داعش» في منطقتي «حليمة قارة» و«مرطبيا» على الحدود اللبنانية ــ السورية.
إلّا أن الساعات الـ48 التي سبقت وقف إطلاق النار حفلت بأحداث مهمّة. يوم الجمعة الفائت، عقدت قيادة الجيش اللبناني اجتماعاً، قررت على إثره معاودة العمليات العسكرية الهجومية في القسم اللبناني من الجرود. أُبلغ المعنيون في الحكومة بأنه تم الاتفاق على السادسة والنصف من صباح السبت موعداً لانطلاقة عملية برية واسعة يريد الجيش تنفيذها في المربع الأخير الذي حوصر الإرهابيون فيه. وبخلاف النفي، تم إبلاغ قيادة المقاومة بالقرار. وهي التي كانت أبلغت الوسطاء مع مسلحي «داعش» في القسم السوري من الجرود أن أيّ وقف لإطلاق النار لن يحصل خلال المفاوضات. باشرت القوات السورية واللبنانية على جانبي الحدود عمليات قصف ناري تمهيدي، ترافق مع طلب المسلحين من الوسيط وقتاً مستقطعاً لاتخاذ القرار النهائي. وقرابة الثالثة فجراً، نقل الوسيط موافقة قيادة المسلحين في الجرود على شروط التسوية، طالبين تأكيد ضمان انتقالهم إلى الرقة أو دير الزور في الشرق السوري.
عندها سارعت قيادة المقاومة إلى الاتصال باللواء إبراهيم، وإبلاغه قرار المسلحين، مع اقتراح بتجميد العملية العسكرية من قبل الجيش اللبناني. فسارع إلى التواصل مع قائد الجيش العماد جوزف عون الذي أبدى الموافقة، كما تم التواصل فجراً مع الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري للغرض نفسه.
كانت مهلة قيادة المقاومة للمسلحين عبارة عن ساعات تنتهي ليل السبت، بينما كان الرئيس بشار الأسد يبعث برسالة عاجلة إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يضمّنها موافقته على تسهيل التسوية وضمان نقل المسلحين إلى الشرق السوري، الأمر الذي ترافق مع نقاش حاد بين قيادات المسلحين في الجرود وفي الرقة ودير الزور، انتهى إلى القرار بالاستسلام، والقبول بالشروط كافة ليل السبت ــ الأحد. وبادر المسلحون إلى خطوات عملية، أولاها تقديم معلومات أكيدة عن مكان دفن العسكريين الثمانية، الذين تبيّن أنه تمت تصفيتهم منتصف شباط عام 2015، وجرى دفنهم في منطقة «حرف وادي الدب» قرب معبر الزمراني. وهو المكان الذي كان الأمن العام قد حدّده عشية انطلاق معارك الجرود، ويقع ضمن دائرة الـ20 كلم مربّع التي حررّتها المقاومة من الأرض اللبنانية في اليوم الأول من المعركة.
وإلى جانب هذه الخطوة، جهّز المسلحون جثث شهداء من المقاومة، وباشروا التفاوض على لائحة الذين يريدون الانتقال إلى الشرق، بعدما كان العشرات منهم قد استسلموا للمقاومة على دفعات خلال الأسبوع الماضي. وبحسب آخر إحصائية، فإن نحو 325 مسلحاً يريدون الانتقال الى سوريا، إضافة الى عائلاتهم، وبينهم نحو أربعين عائلة تقيم في مخيمات النازحين في عرسال. وسيصار إلى تجميعهم سريعاً ونقلهم الى باصات وصل 17 منها الى قارة مساء أمس، إضافة الى 10 سيارات إسعاف لنقل جرحى من المسلحين أيضاً. وسيسلك هؤلاء طريق القلمون ــ تدمر ــ السخنة، ومنها إلى البوكمال على الحدود العراقية، حيث يريد البعض منهم الانتقال إلى مناطق في الغرب العراقي الواقعة تحت سيطرة «داعش».
وفيما خصّ العسكريين اللبنانيين، تبيّن أن المعلومات التي قدمها المسلحون تشير إلى أن مكان دفنهم هو المكان نفسه الذي كان الأمن العام قد تفقده غداة انطلاق معركة الجرود، بعدما وفّرت المقاومة له غطاءً عسكرياً كاملاً، ولم يتم العثور يومها على شيء. لكن بحث أمس أظهر أنهم دفنوا في المنطقة نفسها، على بعد عشرات الأمتار من النقطة التي كان أحد المخبرين قد حددها للأمن العام. وتبين أن المسلحين كانوا قد نقلوا جثث الشهداء إلى المكان الجديد، خشية وصول الخبر إلى السلطات اللبنانية. وبعد تحديد المكان، عملت وحدة من الأمن العام بالتعاون مع الصليب الاحمر، وبتسهيلات وفّرتها المقاومة في المنطقة، على نبش القبور والعثور على هياكل عظمية تعود إلى ثمانية رجال دفنوا وهم يرتدون أحذيتهم العسكرية، على أن يجري اليوم استكمال البحث عن موقع دفن الشهيد عباس مدلج. وأخذت من الجثامين عيّنات من الحمض النووي ونقلت إلى بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة عليها، والتأكد من أنها تعود فعلاً للجنود اللبنانيين. ومن المفترض أن تظهر نتائج الـ«دي. أن. إي.» اليوم، لتحديد هويات الجثامين بشكل حاسم، قبل الاستمرار في التسوية المفترضة. ومساءً، نُقلت الجثامين من منطقة وادي حميد في عرسال إلى المستشفى العسكري في بيروت.
وبينما يشارف ملفّ العسكريين المختطفين على الانتهاء، لا يزال الجيش اللبناني على جاهزيّته لاستكمال عملية تحرير ما تبقى من الأرض المحتلة، فيما كانت قوات الجيش السوري وحزب الله تتقدّم وتضيّق الخناق أكثر على الإرهابيين طوال أوّل من أمس، مسيطرة على مساحات جديدة، أهمها مرتفع «شميس ــ تم المال». وقالت مصادر عسكرية لبنانية لـ«الأخبار» إن «الجيش لم يتفاوض مع داعش لوقف إطلاق نار، واللواء إبراهيم هو المكلّف بالتفاوض، وهو الذي طلب وقف النار لأن الإرهابيين قرروا الإبلاغ عن مكان العسكريين المخطوفين، والجيش أوقف النار في انتظار جلاء ملابسات قضية المخطوفين». وعن مصير الإرهابيين المحاصرين في البقعة الحدودية بعد عملية التفاوض، أكدت المصادر أن «الجيش مستمر في محاصرة المسلحين ولا يزال على جاهزيته كاملة. وما حصل هو وقف للنار فقط، في انتظار صدور النتائج الطبية لرفات العسكريين، والتأكد منها، على أن تتم في المرحلة اللاحقة التعامل مع المعطيات العسكرية بحسب التطورات».
من جهته، ردّ اللواء إبراهيم على الانتقادات التي توجه إلى عملية التفاوض، مؤكّداً أن «عملية فجر الجرود انطلقت من أجل تحرير الجرود وكشف مصير العسكريين، ونحن لسنا عصابة تخرج للانتقام»، سائلاً: «لو قتل كل هؤلاء الإرهابيين من كان ليكشف مصير العسكريين»؟ معتبراً أن «المهم أننا حصلنا على نتيجة، وهي كشف مصير العسكريين وأرواح الشهداء أهم من كل المزايدات».
وردّ المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد على من ينتقدون المقاومة بسبب التطورات الأخيرة، معتبراً أن «المقاومة خلصت عبئاً كبيراً كان على كل لبنان»، مشيراً إلى أن «تصريحات بعض السياسيين ومهاجمة المقاومة (كلام) مؤذٍ ومعيب، وفيه قلة أخلاق»، وأن «أياً يكن من ساعدنا في تحرير أرضنا، علينا أن نشكره». وأكد أن «الشعب اللبناني يعرف أن هذا الشهيد في المقاومة والجيش الذي قتل، لم ينوجد أصلاً لو لم يكن تيار المستقبل والقوات اللبنانية مسهّلين لوجود الإرهابيين في جرود عرسال»، لافتاً الى أنهم «فتحوا الحدود من عكار إلى عرسال تحت عنوان إسقاط سوريا وبشار الأسد».
من جهته، قال الوزير جبران باسيل، خلال جولة له في البقاع الشمالي، إن «هناك حديثاً عن معادلة الجيش والشعب والمقاومة، وهناك معادلة أخرى الجيش والشعب والدولة... مساحة التفاهم كبيرة والمقاومة لا تتناقض مع الدولة، بل هي على الأكيد أصغر من الدولة»، موضحاً أن «المقاومين استشهدوا من أجل لبنان وحمايته، والمهم أن ننحني جميعاً أمام الشهادة، لأننا كلنا استشهدنا من أجل قضية ومن أجل الوطن والأرض والشعب».