كان وما زال التركيز الإعلاميّ كلّه على الأحداثِ الأمنيّة الحاصلةِ في خاصرةِ البِقاع الشماليّ، التي شاءت طبيعتها الجغرافيّة أن تجعلَ منها امتداداً موجعاً للصراعِ السّوريّ، ولكن ماذا عن ذلك التلميذ الذي فقد فُرصتهُ بالتعلّم، أو الأستاذ الذي خَسِرَ وظيفتهُ، أو المُزارع الذي تمنعهُ الأحداث من الوصولِ إلى بُستانه ومصدر رِزقهِ الوحيد، أو صاحب مقلعِ الحجر الذي استهدفته أيادي التخريب، أو العامل في تلك المِنشرة التي أحرقها مجهولون... ماذا عن كلّ هؤلاء ولقمة عيشهم، ماذا عن عيشٍ كريمٍ كان يعيش أهالي عرسال على حافّته قبل زجِّ بلدتِهم بنيرانِ خارج الحدود، وافتقدوا مُقوّماته نهائياً بعد ذلك؟!.
منذ بدء الأحداث السّوريّة لا سيّما بعد عام 2014 ما زال أهالي عرسال يدفعون فاتورةَ الإرهاب الذي تسلّل على قريتهم بلباس نازح، وإن كُنّا لا نريد الخوض بالخسائر البشريّة التي تكبّدتها عرسال، والتي كان لكلِّ بلدةٍ لبنانيّة نصيباً منها، دعونا اليوم نُخرِج عدستنا قليلاً من فوهةِ المدفع ونصوّبها نحو وضعٍ اجتماعيٍّ معيشيٍّ لأكثر من 30 ألف مواطنٍ لُبنانيّ، نتائجه وتَبعاته لا تقلّ فداحةً عن الخسائر الأُخرى.
" 15 مليون دولار لأهالي عرسال لمساعدةِ أهالي المنطقة على استعادة عافيتهم الاجتماعيّة والاقتصادية"، بندٌ أقرّه مجلس الوزراء، مع بداية معركةِ فجر الجرود. تؤكّد نائبة رئيس بلديّة عرسال ريما كرنبي في حديثها لـ"ليبانون ديبايت" أنّه مبلغٌ جاء بعد نداءاتِ البلديّة المُتعدّدة وصرخاتها المُتكرّرة في السّراي الحكومي، لدعم مشاريعٍ اضطراريّة في البلدة، من بناءِ مستشفى، ترميم طرقاتٍ ومدارس...
وبينما يغمز مصدر عرساليّ آخر، ويقول "مصير هذا المبلغ لا بدَّ أن يكون كمصيرِ الـ10 مليارات ليرة التي كانت قد رصدتها الحكومة اللّبنانيّة للتعويض عن مُزارعي الكرز في عرسال، منذ أكثر من سنتين". تُوضّح كرنبي أنّ هذه الـ10 مليارات، التي لا تساوي ثمن أكثر من نصفِ موسم الكرز السنوي الواحد في عرسال، أُقِرّت بعد ضغوطاتٍ كبيرة من البلديّة والأهالي على الحكومة، واعتصامات عديدة في ساحة الشهداء. مبرئةً الحكومة من تُهمةِ المُماطلة، واضعةً الحقّ على تأخّر إحصاءِ توزيعِ المبلغ على المُزارعين، وأشارت إلى أنّ موعد تسلّم المبلغ كما وعدت الحكومة لن يتجاوز الشهر ونصف.
وعن الأموال الجديدة (15 مليون دولار) تتمنّى كرنبي كما الأهالي، الذين بدأوا يتنفّسون الصّعداء مع اقتراب إعلان نصر الجرود، أن تستعجلَ الحكومة في تحويلِ هذه المبالغ لضروراتٍ لها علاقة باقتراب الموسم الدراسيّ، في ظلِّ الأوضاع السيئة جداً للمدارس والطرقات في البلدة.
"وضعٌ مأساوي جداً وحالات اجتماعيّة يُرثى لها...هاجر البعض إلى بيروت والدبية والجية بحثاً عن لُقمة العيش، والبعض الآخر يتدبّر أموره بالاستدانة" بهذه الكلمات تصفُ كرنبي الوضع الاجتماعيّ لأهالي عرسال، فـ"هناك عائلاتٌ لم يبقَ لديها إلّا رحمة ربّها منذ سنوات، ووصلنا لمرحلةٍ يوجد عائلات لا تحصّل مدخول الدولار الواحد أسبوعيّاً أو شهريّاً".
تجزم كرنبي "لم يسلم بيت عرساليّ واحد من الضائقةِ الاقتصاديّة المُرّة" فمن لا يعتمد على بساتين الكرز والتّفاح في تحصيلِ قُوتِ عِيَالِه، لديه مقالع أو مناشر لا يستطيع الوصول إليها منذ أعوام، أو لديه عامل في هذه المقالع والمناشر كانت تعتاشُ عائلته من راتبِهِ الشّهريّ. وتلفت إلى أنّه منذ أسبوعٍ استطاع بعض الأهالي الوصول للمناشِرِ والمَقالِعِ القريبة من البلدة وكانت حالتها كارثيّة بعد تعرّضها لأعمال تخريب، ويتساءل الأهالي اليوم بحسرةٍ "إن كانت هذه حال الأرزاق القريبة فما بالك بالبعيدة"، الأمر الذي يُحتّم وجود خسائر اقتصاديّة كبيرة لأهالي البلدة، وهي الخسائر التي لا يمكن للبلديّة تقديرُ حجمها بعد، على اعتبار أنّ المناشر والمقالع والبساتين البعيدة لا يمكن الوصول إليها حالياً.
إذاً، طالت مأساة أهالي عرسال الاجتماعيّة تماماً كالأمنيّة، على أملِ ألّا تُطيل الحكومة في ترجمة عهودها، على بلدةٍ لا يتحمّل وضعها المعيشي المُماطلة والروتين الإداريّ ولا حتّى الوعود الانتخابيّة.
ليبانون ديبايت