توصلت المجتمعات المختلفة في العديد من الدول المستقرة سياسيا إلى صيغ واضحة للعلاقة بين واضعي السياسات وصناع القرار وبين أصحاب الرأي ممن قد يختلفون معهم ، وتشكلت طرق مختلفة لتبادل المواقع السيادية بصورة تنافسية من خلال الأحزاب والتكتلات السياسية والقوى المدنية المختلفة. هذه الصيغ قادت في معظم الأحيان إلى حالة من التوازن والضبط والرقابة على أداء الأطراف الحاكمة من قبل ما اتفق عليه باسم "المعارضة" التي يكون دورها مراقبة الحكومة وأدائها والتزامها بتعهداتها.
هذه الأطراف – من معارضة أو جهات مدنية فاعلة – معترف بحقها في الاعتراض والاختلاف دستوريا وتمارس دورها عبر مختلف الوسائل المشروعة المتاحة، ويمكنها والحال كذلك من محاسبة الحكومة التنفيذية وسحب الثقة عنها وأحيانا إسقاطها واستبدالها. لكن ذلك كله يتم ضمن ممارسات سلمية وصراع سياسي يراعي المصالح الوطنية الكبرى بحيث لا يؤثر في مقوماتها الأساسية كالقوات المسلحة والحقوق العامة.
لهذا لا يمكن أن يحدث في هذه المجتمعات استبداد واستخدام صارخ للقوة ضد الآخر المختلف، كالانقلابات مثلا أو تقييد الحريات واستخدام القوات المسلحة للقمع أو سوء استخدام الصلاحيات بفرض الأحكام العرفية وما شابه ذلك من اجراءات.
بينما يكون الوضع خلاف ذلك في معظم الدول التي تعتمد حكما شموليا، حيث تتركز السلطات بيد عناصر الجهاز التنفيذي وتمارس مختلف اشكال الاقصاء ضد المختلفين، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى اللجوء للصدامات التي تتحول بعضها لتكون مسلحة وينتج عن ذلك انحيازات واصطفافات وفرز للجماعات الوطنية ضد بعضها البعض.
في المجتمعات التي لم تتعود على ثقافة الاختلاف والقبول بالاعتراض والرأي المختلف، ولم تمارسه في حياتها اليومية، فإن آلية صناعة القرار تختلف تماما حيث لا تتخذ صيغا تشاركية جمعية بين أصحاب الآراء من مختلف الأطراف، مما يعرضها إلى صعوبة التطبيق او عدم حصولها على تأييد شعبي مناسب.
هذه الممارسة تؤسس لدى الناس في مختلف المراحل، حتى تتحول إلى ممارسة طبيعية معقولة ومقبولة لديهم وليس عملا مستنكرا. أتذكر أن أحد أبنائي كان يدرس المرحلة الابتدائية في أمريكا، وعندما بدأت حملات الانتخابات الرئاسية الامريكية قامت معلمة الصف بتقسيمهم إلى جهتين – كل جهة تمثل مرشحا رئاسيا – وعلمتهم على كيفية المناظرات بين المرشحين واوجه الاختلاف بينهم، وبعد المناقشات تطلب منهم ممارسة عملية التصويت والانتخاب لأحد المرشحين.
هذا الأسلوب التربوي يكرس لدى الأفراد الوضع الأمثل للتعاطي مع الرأي المختلف واحترامه والقبول به، وتنمو هذه المفاهيم بصورة تلقائية مع الممارسة المتزنة ليكون الاختلاف والاعتراض حقا مشروعا ومتاحا للجميع.
التجديد العربي