فضلاً على دور دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية في مساعدة إيران لتطوير قدراتها النووية والصاروخية، تتحمل الولايات المتحدة وباقي دول السداسية الدولية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا) جانباً كبيراً من المسؤولية عن اللبس الذي يحيط بتعقيدات التعاطي السياسي والتكييف القانوني للبرنامج الصاروخي الإيراني. فمن جانب، وقعت تلك الدول في شرك الانشغال المفرط بالبرنامج النووي الإيراني، خصوصاً مع تزايد المخاوف من وصول إيران إلى مرحلة العتبة التي تؤهلها لإنتاج السلاح النووي في زمن قياسي، بينما لم تول البرنامج الصاروخي لطهران المقدار ذاته مِن الاهتمام على رغم أهمية الصواريخ الباليستية، ليس فقط كسلاح استراتيجي، وإنما لجهة قدرتها على حمل رؤوس نووية بما يجعلها أداة الإيصال الأخطر لأسلحة الدمار الشامل. ومن جانب آخر، وانطلاقاً من حرصها الشديد على إنجاز الاتفاق النووي مع إيران بشق الأنفس وبأي ثمن قبل انتهاء المهلة الزمنية المقررة، التي لم يكن من الممكن تمديدها مجدداً، هرعت مجموعة السداسية الدولية إلى توفير بيئة مواتية لإنجاح المفاوضات، ومن ثم لم تتورع عن إرجاء الخوض في تفاصيل الملفات الشائكة الأخرى، وفي مقدمها البرنامج الصاروخي الإيراني، تلافياً لإفشال المفاوضات النووية وتوخياً لإدراك اتفاق فيينا.
بناء عليه، اكتفت السداسية الدولية بالارتكان إلى احتواء اتفاق فيينا ومسودة قرارات مجلس الأمن ذات الصلة على نصوص من شأنها أن تكبح جماح قدرات طهران الصاروخية، فضلاً عن إشارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقاريرها الدورية بشأن مدى امتثال إيران للالتزام بـمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، إلى مخاوف تتعلق بالبرنامج الصاروخي لطهران، كما أبقى مجلس الأمن العقوبات المفروضة على برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة التي تنص على أن تحافظ الأمم المتحدة على قيود بشأن الأسلحة التقليدية لمدة خمس سنوات، والعقوبات على الصواريخ لمدة ثماني سنوات. بيد أن هذا النهج الدولي الانسحابي في التعاطي مع برنامج إيران الصاروخي أفضى إلى نتيجتين خطيرتين: تتجلى أولاهما في البنود السرية التي انطوى عليها اتفاق فيينا، والتي أعلنت تقارير استخبارية غربية أنها حظيت بموافقة اللجنة المشتركة التي تشكلت بموجب الاتفاق للإشراف على تنفيذه، وتتألف من السداسية الدولية وإيران، وهي البنود التي تمنح الأخيرة امتيازات عدة مهمة تتصل بمواصلة أنشطتها الخاصة بالبرنامجين النووي والصاروخي في الخفاء، من دون مساءلة دولية. أما ثانيتهما، فتتمظهر في التفسير المتضارب لنصوص الاتفاق النووي، ففي حين ترى طهران أن هذا الاتفاق يَجُبُّ ما قبله من عقوبات وخصومة بين إيران والغرب، ما يعني أنه قد طوى كلية ونهائياً صفحة اللجوء لسياسة العقوبات ضد طهران بعد انقضاء العقوبات الخاصة ببرنامجها النووي منتصف كانون الثاني (يناير) 2016، تذهب واشنطن في المقابل إلى عكس ذلك، إذ ترى أن الاتفاق لا يمنعها من فرض عقوبات جديدة على إيران حال ارتكابها أي خروقات، إنْ في ما يخص أنشطتها النووية، أو ما يتصل برعاية الإرهاب، أو انتهاك قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو تطوير البرنامج الصاروخي.
أما بخصوص البرنامج الصاروخي، وبينما ترى واشنطن وحلفاؤها أن اتفاق فيينا ومسودة قرار مجلس الأمن رقم 2231 تنصان صراحة على تحديد قدرات طهران الصاروخية، حيث حظر الاتفاق على إيران القيام بأي أنشطة لتطوير برنامجها الصاروخي أو إجراء أي تجارب بهذا الصدد، بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»، التي تنص على أن تحافظ الأمم المتحدة على قيود بشأن أسلحة إيران التقليدية لمدة خمس سنوات، وأن تبقي العقوبات على برنامجها الصاروخي لمدة ثماني سنوات. وهي القيود والعقوبات التي جاءت متناغمة مع قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي، في هذا الشأن، آخرها القرار 2231 لسنة 2015، تحظر على إيران القيام بأي أنشطة تطوير أو تجارب تتعلق ببرنامجها للصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، كما وضعت الأنشطة الصاروخية الإيرانية، بشتى صورها، تحت المراقبة المحكمة والمتواصلة وألزمت المجتمع الدولي اتخاذ التدابير الكفيلة بكبح جماح تلك الأنشطة. وتأسيساً على ذلك، لم يتورع الناطق باسم البيت الأبيض جوش إرنست، عن تأكيد أن تلك الخطوات لن تحول دون فرض عقوبات جديدة على طهران جراء أنشطة وتجاوزات أخرى تتصل ببرنامج الصواريخ الباليستية، ومن ثم لم تتوان واشنطن عن التهديد بفرض عقوبات جديدة على إيران في أعقاب إجرائها تجربة في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2015 لإطلاق صاروخ باليستي من طراز «عماد» متوسط المدى وقادر على حمل رؤوس نووية، وهو التهديد الذي نفذه الكونغرس نهاية الشهر الماضي، بفرض مزيد من العقوبات على طهران التي صادَقَ عليها الرئيس ترامب مطلع الشهر الجاري. وتصر طهران على رفض قرارات مجلس الأمن في هذا الصدد. وبدوره، شدد وزير الخارجية الإيراني على أن البرنامج الصاروخي ليس جزءاً من الاتفاق النووي، بما أنه لا يستهدف إنتاج صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية.
ويستند النظام الإيراني في توجهه هذا على دعم يتأتى من جهتين: أولاهما، الداخل الإيراني، حيث يحظى البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي ينطوي على أكبر مخزون في المنطقة من الصواريخ الباليستية علاوة على برنامج نشط لتطوير قدرات صواريخ كروز، بدعم شعبي ورسمي واسع النطاق، كما يرى قطاع عريض من الشعب الإيراني في التجارب الصاروخية أداة ردع تحمل رسائل قوية إلى واشنطن وأعداء إيران. وفي هذا السياق، وجَّه 240 نائباً إيرانياً في مجلس الشورى رسالة إلى قائد الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية تحض على ضرورة حماية البرنامج الصاروخي، كما تطالب بمواصلة إجراء اختبارات صاروخية لمجابهة التهديدات الأميركية. وفي السياق ذاته، جدَّدت طهران رفضها إجراء أي مفاوضات لتقليص ترسانتها الصاروخية، التي وصفها قادتها بـ «الدفاعية والرادعة». أما ثانيتهما، فتتجلى في موسكو، إذ أعلنت وزارة الخارجية الروسية عقب إجراء طهران تجربتها الصاروخية الأخيرة، أن الإيرانيين لم ينتهكوا القرارات الدولية، مشيرة إلى أن القرار الأممي رقم 2231 لا ينص على منع إيران من القيام بمثل هذه التجارب. كما اعتبرت موسكو الدعوة الأميركية لعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن بهذا الشأن مسعى لتأجيج التوترات.
اللافت أن إصرار واشنطن على سياسة العصا إزاء طهران جراء برنامجها الصاروخي إنما يدفع بالأخيرة نحو مزيد من التشدد والإصرار على المضي قدماً في تطوير ذلك البرنامج، فردّاً على تهديدات واشنطن بفرض عقوبات على طهران لتجربتها الصاروخية في تشرين الأول 2016، أمر الرئيس الإيراني حسن روحاني، باتخاذ التدابير الكفيلة بزيادة إنتاج إيران من الصواريخ الباليستية المتعددة المديات.
بشير عبدالفتاح