ما أن يهدأَ المدفعُ في الجرود حتى تبدأ منازعةٌ شرسةٌ بين القوى الداخلية، ولا سيما منها تلك المشارِكة في السلطة. فالجميعُ يريد الحفاظَ على رأسه أو على مكتسباته ليكون الأقوى في المرحلة المقبلة الزاخرة بالاستحقاقات الحسّاسة. سيتصرّف «حزب الله» على أساس أنه شريكٌ أساسيّ في اﻻنتصار وأنّ له موقعَه المميّز، وسيردّ خصومُه بالقول: «الجيشُ يمثّلنا، وإليه وحدَه نجيّر اﻻنتصار».
 

يسجَّل لـ«حزب الله»، حتى في أوساط خصومِه، أنه يتّخذ قراراتِه وينفّذ خطواتِه بكثيرٍ من الدقّة. فهو يحاذرُ أن يسجِّل عليه خصومُه السقوط في منزلقات سياسية، كعدد من القوى الداخلية اﻷخرى. وهذا النهجُ هو جزءٌ أساسي من صورة «الحزب» في ممارسته العملَ السياسيّ في الداخل.

ويتجنّب «الحزب» إجمالاً دخولَ المساومات السياسية التي هي طبقٌ يومي لدى أطرافٍ داخلية أخرى. ويظهر ذلك في ممارسته اﻷداءَ الحكومي ومقاربته ملفاتِ التعيينات والمحاصصات مثلاً، وكذلك اﻷداء في المجلس النيابي. فهو يترك لحلفائِه أن يخوضوا عنه المعاركُ التفصيلية، وأن يحقّقوا له أهدافَه في شكل غير مباشر، ليبقى هو خارجَ المساومات الصغيرة، فيحافظ على صورته ورصيده كطرفٍ يمتلك رؤيةً استراتيجية.

ومنذ 2005، و«الحزب» يحقّق خطواتٍ متتالية قادته إلى التحكّم بجزءٍ كبير من القرار السياسي. وهو أوصل الجميع إلى مرحلةٍ يقتنعون باستمرار احتفاظِه بالسلاح، ولو ظرفيّاً، ويسكتون فيها عن قتاله في سوريا. وفي نظر «الحزب» أنّ حرب تموز 2006 منحته مزيداً من المبرّرات للتمسك بالسلاح، تماماً كما أنّ قتالَه اﻹرهابيين اليوم في جرود عرسال والقلمون الغربي يدعم حجّتَه بعدم الانسحاب من سوريا.

إذاً، عندما تسكتُ مدافعُ الجرود، ستعود القوى السياسية إلى واقعها الداخلي النزاعي. وقد بدأت ملامحُ المواجهات تطلّ برأسِها باكراً: «حزب الله» لن يقومَ علانيّة بـ«تربيح جميلة» للدولة اللبنانية والجيش على ما فعله في الجرود، سواءٌ بدحر «جبهة النصرة» في عرسال أم بدحر «داعش» في الجهة السورية من الحدود، بالتزامن مع عملية الجيش في رأس بعلبك - القاع، لكنه سيحاول تكريسَ ارتباطِ لبنان بمحور الأسد - طهران.

فالإيرانيون واﻷسد يصنّفون أنفسَهم شركاءَ في محاربة اﻹرهاب. وسيعمد «حزب الله» إلى تزخيم الترابط بين الحكومة اللبنانية واﻷسد في المرحلة المقبلة، وسيقول: كما أنّ حربَ اﻷسد على اﻹرهاب كانت سنداً غيرَ مباشر للبنان لكي ينجح في مهمّة تصفية اﻹرهابيين، فهناك حاجة إلى تعميمِ النموذج في مسائل اﻹرهاب وملفاتٍ أخرى كالنازحين وسوى ذلك.

في المبدأ، تستعدّ قوى 14 آذار المشارِكة في السلطة إلى مواجهة مسعى «الحزب» للربط بين لبنان الرسمي ودمشق. وهذه المعركةُ بدأت طلائعُها أساساً في الأزمة التي أحدثتها زياراتُ وزراء «الحزب» وحركة «أمل» وتيار «المردة» للعاصمة السورية.

وبديهي أن تكون «القوات اللبنانية» أشدَّ رفضاً من تيار «المستقبل» لهذا الربط، ﻷنّ العلاقة «القواتية» ـ السورية كانت دائماً سلبية، فيما علاقةُ «المستقبل» بدمشق مرّت بمراحل طيّبة في النصف اﻷول من تسعينات القرن الفائت.

ويقول أحد أقطاب 14 آذار، استباقاً للمواجهة السياسية المنتظرة: «بالنسبة إلينا، الجيشُ هو الذي انتصر في جرود رأس بعلبك - القاع. ونحن نرفض تجييرَ الانتصار ﻷيّ شريك، لبنانياً كان أم سورياً. وعلى العكس، إنّ الجيش برهن أنه قويّ وقادرٌ على مواجهة التحدّيات الكبرى، وهذا ما يجب أن يدفع «الحزب» إلى التخلّي له عن السلاح. أليس هذا ما تقتضيه اﻻستراتيجية الدفاعية المفترَضة؟».

طبعاً، يرفض «الحزب» هذا المنطق. ويقول إنّ هناك تقاطعاً لا يمكن إنكارُه في الزمان والمكان وطبيعة المعركة بين ما قام به الجيش اللبناني و«الحزب» والجيش السوري. وسواءٌ كان ذلك مدروساً أم بالمصادفة، فالمساراتُ بدت متكاملة. ولا داعي ﻹحراج الجانب اللبناني الرسمي بالغوص في هذه المسألة.

أكثر من ذلك، سيمضي وزراءُ «الحزب» و8 آذار اﻵخرون في فتح خطوط التواصل مع دمشق. وسيجد الرافضون أنفسَهم أمام خياراتٍ صعبة. فهوامش الرفض محدودة، إلّا للذين يريدون اﻻنسحابَ من الحكومة. وهذا خيارٌ صعب للجميع على اﻷرجح. وسيُقال للرافضين: ما مصلحة لبنان في مقاطعة اﻷسد فيما العالم كله، بما فيه اﻷميركيون والأوروبيون، ينفتحون عليه ويعترفون به وينسّقون معه في مواجهة اﻹرهاب؟

ولذلك، قرارُ 14 آذار في المواجهة يتعلّق خصوصاً بالموقف اﻷميركي من إيران واﻷسد و«حزب الله». فلا قدرة لهذا الفريق على مواجهة ضغوط إيران واﻷسد و»الحزب» ما لم يحظَ بدعمٍ خارجي. وحتى اﻵن، تبدو واشنطن مصرّة على منع تمدّد النفوذ الإيراني في كيانات المنطقة. وهي باتت تنظر إلى اﻷسد كضرورة، ولكن حتى إنجاز التسوية السياسية. وأما «حزب الله» فهي في صدد تشديد العقوبات عليه.

ولكن، يتذكّر المراقبون أنّ كثيراً من النفوذ كان يمارسه نظام اﻷسد على مدى عقود في لبنان، على رغم ما تمتّع به لبنان من غطاءٍ أميركي وأوروبي ورعاية عربية.

إذاً، المعركةُ السياسية المنتظرة، بعد تحرير الجرود، ستكون قاسيةً ويصعب توقّع خواتيمها. لكنها بالتأكيد ستكون مفصليّة في تحديد اﻻتجاهات ومعادلات النفوذ، لا في الداخل اللبناني فحسب، بل أيضاً في الكيانات العربية التي تهتزّ بقوة، ولا سيما منها سوريا والعراق.