بمعزل عن المباحثات السياسية التقنية، وفي الابتعاد عن "الثوابت المفترضة" في سياسات الدول، وما هو محرّم أو محللّ بالنسبة إليها، لا شك في أن ثمة محوراً قد خسر. لم يعلن أرباب هذا المحور ذلك، مازال الأصوات ترتفع منه، رغم أن الوقائع أصبحت في مكان آخر، أو على الأقل هذا ما يريد المحور الذي يجد نفسه منتصراً الإيحاء به، من خلال استباقه إعلان الانتصار. يعيد من يرى نفسه مهزوماً أسباب تراجعه وانكفائه إلى الرؤية الإقليمية. غالباً ما تلقى الملامة على الولايات المتحدة الأميركية وسياستها الخارجية، والتي أسهمت في خسارة هذا المحور.

بعد أشهر على انتخاب دونالد ترامب، وانتظار الرؤية الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط، وما ستفعله واشنطن "الجديدة" في سوريا، لم يتبدّل شيء. ويرى مراقبون أن السياسة الأميركية لم تنقلب على الأوبامية، وبعد تعليق الآمال على كلام كثير وكبير، عن تحجيم نفوذ إيران في سوريا، تخرج الصورة معاكسة. إيران باقية وتتمدد، من الحدود اللبنانية السورية، إلى الحدود السورية العراقية، وما بينهما. خطاب جديد لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، يعلن فيه الانتصار، ويحذّر من جعله انتصاراً مذهبياً من فئة على أخرى. وحين يقول سليماني إن قتال إيران في سوريا والعراق، ربط بين المذهبين السني والشيعي، فلذلك معنى أساسي في المفهوم الإيراني، هو أن الانتصار تكرس، ومن لا يريد الاعتراف بذلك، أو الانضواء تحت لواء الانتصار، ستكون طائرات التحالف لمحاربة الإرهاب كفيلة بتأديبه.

إيرانياً، يبدو واضحاً أن الأمور تسير على الطريق المرسوم، وهو الاستثمار في إنهاء داعش في لبنان وسوريا والعراق. انهاء وجود داعش على الحدود اللبنانية، يعني أنه سيتم ترييح لبنان وتكريس الجيش. فيما الحديث الآن ينتقل إلى مرحلة ما بعد التهديدات الإرهابية. وهذه تطرح العديد من الأسئلة، عن لبنان ما بعد هذه التطورات وفي المرحلة المقبلة. ثمة من يعتبر أن سوريا دخلت في مرحلة جديدة. ويتوجه هؤلاء إلى بعض الأفرقاء اللبنانيين بوجوب عدم التعاطي مع الأمور من المنظور القديم، بل مواكبة مرحلة إعادة التشكّل. وفيما يعتبر البعض أن مواجهة إيران، أُجّلت إلى ما بعد نهاية داعش. بالتالي، فإن الحديث عن أن العام المقبل هو عام مواجهة إيران، مازال في إطار الكلام.

ماذا بعد داعش؟ هذا السؤال الأساس بالنسبة إلى البعض الذين يفضلون الإقلاع عما يصفونه باللغة الخارجية. ويعتبر هؤلاء أن هذا السؤال يريد حزب الله عدم مواجهته حالياً، خصوصاً إذا ما قُرن بسؤال عن مصير سلاح الحزب ودوره بعد المعركة. ويسأل هؤلاء: "ماذا ستكون وظيفة حزب الله وسلاحه في المرحلة الجديدة، التي لا تتطلب دوراً خارجياً للحزب، طالما أن المعركة الكبرى تضع أوزارها، والجميع يبحث عن حلّ سياسي؟".

لا شك في أن التطورات تتطلب من الحزب طرح أسئلة جدية عن دوره ونشاطه الخارجي، لكنه يعتبر أنه حقق مكاسب رئيسية وهي إعادة تثبيت القواعد والثوابت التي قاتل لأجلها. رغم أن النظام السوري لن يعود كما كان سابقاً، ومستحيل أن يعيد تركيب سوريا وحيداً، لا يمكن لأي قوة واحدة أن تنسج الحلّ السوري. هذه التطورات والتحولات تبدو واضحة من خلال الاتصالات المفتوحة ما بين الدول الإقليمية، لا سيما بين تركيا وإيران، وما يحكى عن مساع تقوم بها سلطنة عمان، على خطّ التواصل غير المباشر بين الرياض وطهران، ربطاً بالإنفتاح السعودي على العراق.

ولا يمكن فصل ذلك عن التوافق الروسي الأميركي بشأن الوضع السوري. وهنا، يبرز التضعضع والقلق الأميركيين، مقابل ثبات في الرؤية الروسية. وهذا ما يشير حتى الآن إلى تعزيز المكاسب الإيرانية، رغم إبعاد إيران وحزب الله من تلك المنطقة. لكن، هناك نوعاً من حزام الأمان فرض حولهما، مقابل تعزيز موقعيهما في مناطق أخرى. وهذا الغطاء الدولي برز في المناطق الأخرى. الهم الأساسي بمواجهة إيران وما يحكى عن تحجيم نفوذها في سوريا، هو عدم وجود إيران على الحدود السورية الإسرائيلية. أما في بقية الجغرافيا السورية، فالوجود الإيراني ثابت، وحصّته محفوظة، ومن المبكر جداً الحديث عن تقويض دور إيران وحزب الله في سوريا.

كل هذه التطورات تستبقها طهران، لتستعجل إعلان الانتصار. خلال زيارة الرئيس نبيه بري إلى طهران، تقرّر زيارة وزراء لبنانيين إلى سوريا، وإعادة العلاقات الرسمية إلى ما كانت عليه، وبعدها، يزور نائب وزير الخارجية الإيرانية للشؤون الأفريقية والعربية حسين جابري انصاري لبنان، للقاء مختلف المسؤولين اللبنانيين، وتوجيه دعوة إلى الرئيس ميشال عون لزيارة طهران. لا تنفصل هذه الزيارة عن استعجال إعلان الانتصار، وإبلاغ اللبنانيين بذلك، لترتيب الأوراق على هذا الأساس. فيما هناك من يعتبر أن هذه الخطوة الإيرانية هي استباق لاندفاع خليجي في اتجاه لبنان قريباً، وسعودي بالتحديد من خلال زيارة وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان.