إن خلط كل شيء بكل شيء احدى مشكلات تفكيرنا الديني الحديث، وهو ضرب من تلفيق عناصر متضادة ينفي بعضُها البعضَ الآخر، كما انه على الضدّ من منطق التفكير العقلاني وترفضه مناهجُ البحث العلمي. منطق التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي يعتمدان البحثَ المتواصل بغية رسم حدود جغرافية للمعتقدات والمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية، وتحديد المقولات والمفاهيم والأشياء، وتمييز كل منها عن الأخرى، وتصنيفها عبر الكشف عما يتميز ويختص به كل منها، وعما يشترك به كل منها مع سواه.
مقياس تطور المعارف وتقدم العلوم يقاس بمدى اكتشافاتها للحدود. ولولا ذلك للبثت المعرفة محدودة وساذجة وبدائية. تقدّمُ المعارف والعلوم يكفله تشعبُها واتساعها وتعدد موضوعاتها، إذ لا علوم ومعارف بشرية بلا اختلاف وتنوع.
ذهنية التلفيق تنشأ من شعور مرير يتملكنا ناجم من الخوف على هويتنا، والقلق من افتقاد خزان الذاكرة، والافتقار لرموز التراث التي تغذيها، فيوقعنا ذلك الشعور في مفارقة ملتبسة، فلا نحن بالقادرين على استحضار ما كان كما كان، ولا نحن بالقادرين على الاقلاع عما كان.
الهوية ملاذ لمن لا يجد ملاذاً له في العقل. لقد غذّى "فوبيا ضياع الهوية" من جهة، والحاجةُ الملحّة للحضور في العالم من جهة أخرى، نزعةَ التلفيق بين الماضي والحاضر، والتراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، والديني والدنيوي، فأنهك النصوصَ الدينية بعمليات تأويل متعسفة، لا يقبلها منطقُ التأويل القديم ولا الجديد، عبر اسقاط مكاسب الحداثة المتنوعة في الفلسفة والمعارف والعلوم على النصوص الدينية.
هوية الجماعة تغذيها معتقداتُها ومروياتُها عن نفسها، وتصوغها أحلامُها وتطلعاتُها، لذلك تعمل الهوية على إنتاج الحقيقة في اطار أحلامها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية.
الهوية في عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة لم تعد ساكنة، تعدّدت وجوهُها وأبعادُها، ولا يمكن أن تظلّ ذاتَ وجه وبعد واحد، لأن الواقع الشديد التحول يفرض عليها أن تصير متعددةَ الوجوه والأبعاد، تتعدد عناصرها وتتنوع مكوناتها تبعاً لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتغير.
بنية الهوية في عالمنا اليوم معقدة، تتألف من سلسلة طبقات متنوعة العناصر، لا تلبث عناصرُها على الدوام في سُلّم ترتيبها، ولا تمكث في موقعها، ولا تقف عند صورة واحدة من صورها، لذلك تتطلب معرفتُها تفكيراً صبوراً، يتوغل في طبقاتها، ويحلّل عناصرَها، ويضئ صورَها المتلاحقة.
الهوية في حالة تشّكّل مستمرة، إذ لا تستطيع أية هوية أن تعزل نفسها عما يجري فيما حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع حادّ ومتسارع للتغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كلُّ شيء فيما تظل الهويةُ ساكنة.
الهوية في حالة صيرورة، بل هي صيرورة لا تكفّ عن التحول المتواصل، لأنها علائقية بطبيعتها، تتحقق تبعاً لأنماط صلاتها بالواقع، وما يجري على الهويات الموازية لها، وذلك يفرض عليها أن يُعاد تكوينها، فتصاغ في سياق: تفاعلها، انفعالها، تضادّها، صراعها، تسوياتها، تساكنها، تضامنها، مع كل ما يحدث في الواقع، وكلّ ما يجري على الهويات الأخرى. ممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي يفضي إلى انغلاقها على نفسها وتحجرها، وفشلها في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب الايقاع المتسارع لتحولات الواقع، ومن ثم خروجها من العصر.
من الوهم النظر الى الهوية الدينية كأمر قارّ ساكن، لا يتحول ولا يتبدل، يؤثر في كل شيء ولا يتأثر بشيء، وذلك ما تكذبه وقائع الجغرافيا والتاريخ والثقافة والحضارة والاجتماع البشري، كما تكذبه مسيرة الأديان، وما تخوضه من حروب داخلية، بفعل حالتها الانقسامية المستمرة، وولاداتها المتوالية فرقاً تتشظى الى فرق، وطوائف تتشعب الى طوائف.
وعيُ البعض لشيء من صور هذا المأزق ألجأهم لتلفيق الثنائيات المتنافرة، وتركيب كلّ شيء يبهرنا في الحاضر بكلّ شيء مازال يُكبّل عقولَنا في الماضي، وقد أفضى ذلك إلى أن تتيه عقولُنا في الموضات الفكرية والسياسية، ويغرق تفكيرُنا في إسقاط كل شيء يفتننا اليوم على النصوص الدينية، في محاولة لامتلاك ما يبهرنا ولصقه بهويتنا.
لو قرأنا نماذج من أدبيات النهضة، بعد صدمة اكتشافنا الغرب وعلومه الجديدة، نجدها تسقط بعض الاكتشافات العلمية التي أنجزها غيرُنا على النص الديني، كما فعل الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، الذي استوعب تفسيرُه لكلّ ما عرفه وقتئذ من العلوم الحديثة، فاتسع لكلّ شيء ما خلا التفسير، وهكذا فعل كثيرون غيره في تلك الحقبة.
وفي مرحلة لاحقة اجتاحتنا فتنةُ الاشتراكية، فأصبح النبي محمد "ص" وبعضُ الصحابة كأبي ذر والخلفاءُ وغيرهم اشتراكيين، كما يقول لنا مصطفى السباعي في سلسلته عن الاشتراكية والاشتراكيين في الاسلام، ومحمود شلبي، وغيرهما.
وبموازاة ذلك اجتاحتنا فتنةُ اليسار، فتفشت كتاباتٌ تفتش عن اليمين واليسار في الاسلام، وتسعى لتفسير الاسلام تفسيراً ماركسياً، كما فعل بعضُ الكتّاب العرب، وآخرهم صديقنا حسن حنفي، الذي أصدر العدد اليتيم من مجلته "اليسار الاسلامي"، وكتاباته الغزيرة في هذا السياق، التي يصرّ فيها على تلفيق مقولات متكلمي الفرق المختلفة وفتاوى فقهاء المذاهب المتعددة مع مقولات ومفاهيم اشتراكية وغيرها.
واليوم تجتاحتنا فتنةُ الديمقراطية والليبرالية، بنحو أمسى فيه الاسلامُ ديمقراطياً وليبرالياً، حتى ان أشرس الجماعات الدينية المناهضة للديمقراطية أمست ترفع شعارَ تطبيق الديمقراطية. وكأن هذه الجماعات تتنكّر لأدبيات مؤسسيها ومنظّريها وكتّابها الذين كتبوا الكثيرَ من النصوص التي تزدري الديمقراطية وتبالغ في هجائها وتحذير المسلمين منها، بوصف الديمقراطية في مفهومهم هي التعبير الصريح للحضارة المادية الغربية. وإن كان بعضُ رجالها يتخذ من الديمقراطية قناعاً يختفي خلفه، بغية القبض على السلطة، والتمكن من تطبيق أحكام المدونة الفقهية.
وفي وطننا العراق اليوم مثلاً تفشى مصطلح "مدنية" سياسياً، وكما هو معروف ان هذا المفهوم ولد وتطور في سياق الفكر السياسي الغربي الحديث، وهو يشي بدلالات لم تولد أو تتشكل في سياق اسلامي. وكلّ من له أدنى خبرة بالفكر السياسي الحديث يعلم ألّا دولة مدنية بلا ديمقراطية، وبلا فصل الدين عن الدولة، وبلا فصل الديني عن الدنيوي... يشدّد سيد قطب، في كتابه "معالم في الطريق" وغيره من كتاباته، على جاهلية الديمقراطية، وجاهلية فصل الدين عن الدولة، وجاهلية فصل الديني عن الدنيوي، وجاهلية كل المعارف والأفكار والفنون والآداب، والشرائع والقوانين، المنتجة في سياق غربي. والجاهلية كما يصرّح في كتاباته تعني الكفرَ بالله. يكتب سيد قطب: "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم.كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميًا. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!".
ولا نعرف ما الذي سيجري في قادم الأيام من تلبيس للإسلام، وتقويل النص الديني مالم يقله، ونسبة أفكار لمفكّري الإسلام لم يفكروا فيها.
لن يخرج الدين من مأزقه، ولن تخرج مجتمعات الاسلام من مأزقها التاريخي، مالم ترسم حدوداً يتكشف فيها مجالُ الدين وحدوده ومجالُ الدنيوي وحدوده، ويكف كتّابُنا عن التلفيق ولصق كل ما يغويهم بالدين.
لن نكتشف طريقَ الخلاص مالم يكن الدينُ ديناً لا غير، والمقدسُ مقدساً لاغير، والدنيا دنيا لا غير، والآخرةُ آخرة لا غير، والفلسفةُ فلسفةً لا غير، والعلمُ علماً لاغير، والأسطورةُ أسطورةً لا غير، والمتخيلُ متخيلاً لا غير، والأدبُ أدباً لا غير، والفنُ فناً لا غير... لا بمعنى القطيعة الجذرية بين كلّ منها، وانما بمعنى رسم صورة لكل منها تضئ ملامحَه، وتتعرف على ماهيته، وتحدد اطار موضوعه، وتعلن عن وظيفته.