لا ينقطع الشأن السوري عن إثارة الدهشة. ولا ينفك السوريون عن تقديم تجارب ونماذج هي من الغرابة بحيث لا يقبلها عقل ولا يستسيغها منطق. ويستوي في ذلك "نظامهم" الغريب الاطوار، ومعارضوهم الأشبه بشذاذ الآفاق.
قبل أيام، قال الرئيس بشار الاسد في محفل دبلوماسيي سوريا وسفرائها في العالم، كلاماً ليس له تفسير سوى ان الرجل، الذي كاد يسقط من الحكم قبل عامين تماماً، وصل للتو من كوكب آخر، ليعلن قيامة المجتمع السوري "المتجانس"، المبني على نصف مواطنيه، أو أقل، ويطوب نظامه لصراع مع الغرب ليس له أساس ولا دليل، ويرجىء إعلان النصر الى ما بعد صدور البيان الروسي الايراني المشترك.
وقبل ساعات، إنعقد في الرياض إجتماع للمعارضات السورية الثلاث، لينتهي الى إضافة لطخة سوداء جديدة على اللوحة السورية المظلمة، من دون أن يتضح ما إذا كان الروس والسعوديون كانوا يتصارعون، أم كانوا يتسلون. المؤكد حتى الان أن فشل الاجتماع لم يفاجئهم ولم يحزنهم.
في القراءة الاولية، قيل أن الروس أحبطوا بواسطة منصتهم السورية المتواضعة محاولة سعودية للتقريب بين المعارضات الثلاث وحالوا دون تشكيل وفد سوري موحد يجلس قبالة وفد النظام في مفاوضات جنيف المقبلة. لكن التدقيق في إنهيار اجتماع الرياض لا يتيح بالاستنتاج بأنه جاء نتيجة خلاف عميق بين روسيا والسعودية اللتين لا يفصل بينهما في سوريا، سوى الدور الايراني، والرجاء السعودي بان يكون التدخل الروسي هو بديله الأنسب والأسرع.
ثمة سياسة سعودية، جديدة - قديمة ، تختزل الصراع على سوريا الى التنافس مع إيران، وكل ما عداه تفاصيل، أهمها ما لاح مؤخراً عن تسليم سعودي بالحاجة الى بقاء الاسد في الحكم حتى إنتهاء المرحلة الانتقالية، التي لم تبدأ أصلاً، والتي سبق ان حُدد لها أكثر من موعد إنطلاق وأكثر من مهلة.. وهي سياسة تكاد تتطابق الآن مع الموقف الروسي الذي لم يرَ يوماً ان في سوريا بديلاً جاهزاً من الاسد.
ولا يبقى سوى الظن بأن الجانبين الروسي والسعودي يشعران بأن الوقت قد حان فعلاً للتخفف من عبء المعارضين السوريين "المقيمين" في البلدين، ومعهم المقيمون في القاهرة، ودفعهم الى مواجهة بعضهم البعض بحيث يفقدون جميعاً آخر ما تبقى من مصداقيتهم وشرعيتهم وشعبيتهم، وتفقد الثورة السورية بذلك آخر رموزها ومؤسساتها السياسية، لمصلحة قوى عسكرية وإسلامية تتقدم يوما بعد يوم نحو تمثيل الشارع السوري ولو باشكال متفرقة ومنفصلة، تحكمها حالياً عقد الجغرافيا المفككة التي أفرزتها سنوات الحرب.
لا يعقل ان تكون منصة موسكو التي ليس لها سند على الارض السورية،لا من النظام ولا طبعا من المعارضة، هي بمثل هذه القوة والتأثير بحيث تستطيع أن تفجر إجتماع الرياض، الذي مهدت له السعودية بوصفه نقطة تحول في مسار الحل السوري. الاقرب الى العقل هو أن ثمة توافقاً سعودياً روسياً على تعطيل العملية السياسية السورية برمتها، على إختلاف رموزها وشروطها السابقة.. والشروع في البحث عن بدائل تستند ربما الى مسار الاستانة الذي حقق نجاحات لا بأس بها على أرض الواقع السوري.
قبل إجتماع الرياض، لم تكن منصة موسكو تؤخذ على محمل الجد، بعدما أدت غرضها الاول في الحؤول دون قيام جسم سياسي سوري معارض. وكذا الامر بالنسبة الى منصة القاهرة التي كانت على الدوام عبثاً سياسياً مكلفاً، لكنها صارت بلا أي جدوى حتى بالنسبة الى مصر التي قفزت أخيراً الى العمق السوري، وحققت إختراقاً غريباً من خلال رعاية "جيش الاسلام"، وفصائل إسلامية أخرى لا تمت الى الخطاب الرسمي المصري بأي صلة غير أمنية.
ولعل الائتلاف الوطني السوري، ومعه الهيئة العليا للمفاوضات، هو الضحية الاكبر لتلك المسرحية السوريالية التي جرت في الرياض. صار الائتلاف مجرد منصة سعودية، تتناطح مع منصة روسية وأخرى مصرية على تمثيل الداخل السوري، وتعجز عن إستخدام غالبية سياسية كانت كاسحة، وصفة تمثيلية كانت راجحة وتحظى بإعتراف عربي ودولي واسع النطاق.
ما جرى في الرياض، لا يقل غرابة عما قاله الأسد..كلاهما وجهان لبؤس واحد.