يبدو أن الجنرال قاسم سليماني، الذي يُحسب له الحساب في أربع عواصم عربية هي: دمشق وبغداد وبيروت ومؤخرا في صنعاء، لم يعد يكتفي بأن يكون «جنرال الحرب» في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهو كما يبدو أخيرا يسعى لأن يكون «راسم المسارات» للسياسة الإيرانية، بحيث إذا وقع التغيير أو حتى لو ترسّخ الجمود يكون حاضرا للعب دور يُبقيه في الأمام ولا يُفرَض عليه أن يكون اسما لامعا في «جمهورية خامنئي».
الخطاب الذي ألقاه أمام «مؤتمر لأئمة المساجد»، أخرج كل التدخّل الذي قاده في الدول العربية في سياقه التعبوي المذهبي الذي كانت انطلاقته: «السيدة زينب لن تُسبَى مرّتين»، ووضعه في سياق «استراتيجية» مدروسة جيدا، هدفها تحقيق «المصالح الإيرانية». طبعا، لا يمكن أن يخرج سليماني من تحت «عباءة» المرشد الذي هو القائد الأعلى للقوّات المسلحة الإيرانية سواء كانت من «الحرس» أو «الجيش». فأرجع ذلك إلى المرشد خامنئي. التأكيد على وجود «مصالح» إيرانية، جاء ردّا على المعترضين ومنهم مَن هو «مهم» على التدخّل الإيراني في سوريا، هو لإقناع «الوطنيين»
و«القوميين» الإيرانيين المؤمنين بأن «مصلحة إيران فوق كل شيء». يعني أنه حتى لو جاء الإصلاحيون إلى السلطة بقوّة وحتى لو خلف الرئيس حسن روحاني المرشد خامنئي، فإن كل شيء يسقط ما عدا مصالح إيران. ترجمة ذلك التأكيد على دوره أينما كان في المحافظة على هذه المصالح اليوم وغدا، ولتشجيع القائمين في السلطة اليوم والقادمين في المستقبل، على استمرار هذه الاستراتيجية، فإنه يؤكد «بأن إيران بلغت قوّة غير مسبوقة»، عن طريق هذه السياسة، التي لا يهمّها «شخص الديكتاتور في سوريا» أي بشار الأسد وإنما كيف يُساهم في الحصول على مصادر القوّة.
لا يعني أنه إذا «رسم الجنرال سليماني اليوم المسارات»، يجب أن تُنفَّذ غدا. ربما وهو الأرجح أنه يعمل على إقناع المعترضين على نهجه العسكري والنهج الاستراتيجي للمرشد خامنئي. الجنرال «قلق» من التحوُّلات المقبلة، خصوصا أن إيران تواجه «امتحانات» خطرة جدا دفعتها إلى القفز فوق كل التحفّظات التاريخية خصوصا باتجاه تركيا، في وقت تتزايد «أخطار فتنة داخلية». بالنسبة لتركيا، لم يحصل أن قام رئيس أركان إيراني بزيارة لتركيا منذ الثورة، والبارز أن الوفد العسكري الإيراني ضمّ كبار القادة وأبرزهم قائد قوات الأمن الداخلي.
لا شك أن طهران قلقة جدا من الحالة الكردية داخلها وهي أرادت أن تتشارك مع أنقرة في مواجهة هذا «الخطر النامي»، خصوصا مع إمكانية إتمام الاستفتاء الكردي العراقي بنجاح حول الاستقلال. وقد أعلن بوضوح أثناء الزيارة «أن أمن الحدود كان أهم الموضوعات»، كذلك فإن متابعة عملية السلام في سوريا كانت بندا رئيسيا.
والسؤال للتوصّل إلى اتفاقات واسعة واستراتيجية تتعلق بهكذا قضيتين، لا بد من أن يقدّم الطرفان «تنازلات مؤلمة ومتبادلة»، فما هو حجم هذه التنازلات ونوعيتها علما أن مصالح طهران وأنقرة ليست متكاملة وإنما متنافسة وأنه في الوقت الذي ما زالت طهران تريد المحافظة على الأسد فإن أنقرة لا تريد بقاءه في الحل النهائي على الأقل.
أمّا ما يتعلق بالفتنة الداخلية، فإن الكلام عنها ليس بجديد ولكن كون الجنرال سليماني يحذّر منه، فإن هذه «الفتنة» كما يراها المتشددون هي في واقع الحال الصعود المتنامي للمعتدلين والوسطيين والإصلاحيين، أي «جبهة الأمل»، للإمساك بالسلطة وإحداث التغيير الذي يريده الشباب الإيراني. وكان لافتا أن حملة إعلامية مركّزة انطلقت مع تعيين المرشد خامنئي لآية الله شهرودي رئيسا «لمجلس تشخيص مصلحة النظام»، بأن «المتشددين» أمسكوا بالسلطة، وأن الرئيس حسن روحاني يكون «الملكة اليزابيت» أو «بني صدر» الموجود في المنفى في باريس. الواقع يؤشّر إلى غير ذلك.
* إن آية الله شهرودي في الأصل هو عراقي من «حزب الدعوة» لا يمكنه أن يكون مرشدا للجمهورية لأن الدستور لا يسمح بذلك (حادثة جلال الدين فارسي الذي مُنع من الترشح ضد بني صدر لأن أصوله أفغانية) وتعيينه ليس أكثر من «تكريم» له ولخدماته لـ«الجمهورية».
* إن انتخابات رؤساء البلدية أثبتت تقدم «جبهة الأمل». فقد فاز محسن بن هاشمي رفسنجاني برئاسة بلدية طهران بعد أن صوَّت له 21 عضوا من أصل 21 عضوا ، وبعد أن اضطر منافساه إلى الانسحاب وهكذا حصل في معظم المدن الكبرى.
* إن روحاني يزداد قوّة بعد أن أصبح حليفاه الرئيس محمد خاتمي (الزعيم الفعلي للإصلاحيين) والسيد حسن الخميني (حفيد الإمام الخميني) يجاهران بدعمه ويعملان على فتح الطريق أمامه لخلافة خامنئي. ويبدو أن خامنئي بدأ يأخذ مسألة روحاني «خليفة» له بجدّية، فقد تعمّد لأول مرة أن يخاطبه في الفترة الأخيرة باسم «العلامة» و«الدكتور»، مسقطا بذلك كل الافتراءات السابقة ضدّه حول «اجتهاده» وشهادة «الدكتوراه».
* إن خروج قضية إطلاق سراح الشيخ مهدي كروبي ومير حسين موسوي إلى العلن، تخيف «المتشددين» وتقلق المرشد خامنئي، لأن عدم إطلاقهما يرفع منسوب الاعتراضات التي يمكن أن تتحوّل إلى الشارع، ومحاكمتهما مشكلة أكبر لأن الشاهد الأول في حصول التزوير في انتخابات 2009 هو أحمدي نجاد الذي بسببه أصبح رئيسا. لذلك يجب العثور على حل قد يقضي بإطلاق سراحهما مع التزام الصمت.
«الجمهورية الإسلامية في إيران» تقف حاليا على مفترق طرق، لا يمكن حتى لمَن يريد أن يكون «راسم المسارات»، مثل الجنرال قاسم سليماني، أن يحسم الخيارات، طالما أن النظام قائم وهو يعمل على قاعدة احترام «موازين القوى»، ولكن بالتأكيد ما كان مناسبا «لجمهورية خامنئي»، ليس بالضرورة أن يكون لمصلحة «الجمهورية القادمة».