نشَبت الحرب الأهلية الأميركية عام 1861، على أثر انتخاب أبراهام لينكولن رئيساً للبلاد في السنة السابقة. كان لينكولن قد ساهم في تأسيس الحزب الجمهوري قبل سنوات قليلة من انتخابه، ومن بين مبادئ الحزب الجديد المساواة بين جميع أفراد المجتمع الأميركي، أي أنّ العبودية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، وبصورة واسعة جداً في الولايات الجنوبية ينبغي إنهاؤها. وقد جاء انتخاب لينكولن تجسيداً لهذه المبادئ.
قبل انتقال لينكولن من ولاية إيلينوي التي كان يقيم فيها إلى العاصمة واشنطن لتسلّمِ مهمّاته الرئاسية، أعلنَت سبع ولايات جنوبية انفصالها عن الولايات المتحدة وأطلقَت على نفسها اسم «كونفدرالية الولايات المتحدة» وعاصمتُها مدينة ريتشموند في ولاية فرجينيا.
في نيسان 1861 هاجمت القوات الإنفصالية إحدى القواعد العسكرية التابعة للدولة في ولاية كارولاينا الجنوبية، وكان ذلك الشرارة الأولى لحربٍ دامت أربع سنوات فاقَ فيها عدد القتلى من الجنود مجموع ما خسرَته الولايات المتحدة في الحربَين العالميتين والحرب الكورية والحرب على أفغانستان والعراق مجتمعةً.
في العام 1863 أصدر الرئيس لينكولن «إعلان التحرير»، أي تحرير العبيد السود من أسيادهم البيض، ومن ثمّ باشَر بالإجراءات الدستورية الآيلة إلى إدخال تعديل على الدستور الأميركي يضع حدّاً نهائياً للعبودية ويُساوي بين جميع المواطنين الأميركيّين. هذا التعديل الدستوري دخَل حيّز التنفيذ عام 1865 بعد موافقة الكونغرس عليه وبعد مقتل لينكولن على يد أحدِ العنصريّين البيض بعد أيام من بدء ولايته الرئاسية الثانية.
على أثر هزيمة الكونفدرالية واستسلامِها في نيسان 1865، سعَت الدولة الاتحادية إلى إعادة اللحمة في ما بين أبناء الوطن الواحد عبر برنامج سُمّي إعادة الإعمار يَهدف إلى تأهيل البنى التحتية في المناطق الجنوبية التي كانت مسرَحاً لمعظم المعارك وأعنفِها، كما رافقَ ذلك إصدار قوانين وأنظمة لإدماج المواطنين السود في المجتمع الأميركي وتأمين الحماية للّذين يهربون من أسيادهم.
هذه الأوضاع المستجدّة لم ترُق للفريق المهزوم الذي استمرّ في معاملته السيئة للملايين الأربعة من العبيد السود المحرّرين كما حصَلت أعمال انتقام من قبَل العبيد المحرّرين ضد أسيادهم السابقين.
في الفترة التي تلت هذه المرحلة، بدأ المواطنون البيض الجنوبيون بإقامة التماثيل التي تُخلّد قادتَهم الانفصاليين وبوضع لوحات تذكارية لهم في الساحات العامة، كما أنّهم استمرّوا في رفعِ الأعلام الكونفدرالية على أبنية حكومية تابعة للحكم المحلي في الوقت الذي كانت تسعى الدولة الاتّحادية الى رأبِ الصدع والتعامل مع السود المحرَّرين كمواطنين عاديّين وذلك على الرغم من استمرار التمييز العنصري في المدارس والمطاعم ووسائل النقل المشترك في الولايات الجنوبية.
بدأت عندئذ حملات لإنهاء هذا التمييز العنصري وقد كان أهمّها التحرّكات السلمية التي قادها القسّ مارتن لوثر كينغ في ستينيات القرن الماضي والتي أدّت الى مقتلِه على يد أحد المتطرّفين البيض عام 1968، وقد رافقَ ذلك أعمال شغَب كبرى في العاصمة واشنطن وفي مدن أخرى، هذا مع العِلم أنّ الرئيس ليندن جونسون كان قد أصدر في تلك الفترة مجموعة قوانين تمنع التمييز العنصري كما جَعلت الإدارة الأميركية يوم مقتل مارتن لوثر كينغ عطلةً رسمية وأقيمت التماثيل التذكارية له، أحدُها على أهمّ ساحة في العاصمة وبالقرب من الكونغرس، كما تمّ افتتاح متحف للأميركيّين السود الذين يُعرَّف عنهم بالأفارقة-الأميركيين.
كلّ هذه التطورات والقوانين والنصوص الرامية الى إدماج الأفارقة-الأميركيين بالمجتمع العام لم تُخرج التمييز العرقي من النفوس عند الفريقين. فنسبة الدخلِ المتدنّي عند الأفارقة-الأميركيين تؤدي الى سرقات ومخالفات قانونية جمّة يَنجم عنها مطاردات بوليسية بحقّهم، ما يُفاقم الأمور ويَضعها في إطار الاختلاف العرقي.
من جهةٍ ثانية، فإنّ الحزب الجمهوري الذي نشَأ أصلاً على مبادئ المساواة الاجتماعية، طرأت عليه تغييرات جوهرية نتيجةً لانتماء أعداد كبيرة من المحافظين الجُدد إليه، فابتعد عن هذه المبادئ الأساسية وأصبح معروفاً بحزب الأغنياء والشركات الكبرى، ثمّ جاء انتخاب الديموقراطي باراك أوباما عام 2008 كأوّل رئيس أفريقي-أميركي، وبدلاً من أن يُخفّف ذلك من وطأة الصراع العرقي زاده حدّةً، إذ إنّ المواقف التي اتّخذها الحزب الجمهوري تجاهه من عرقلةٍ لمشاريعه ومحاربة قوية له أدّت إلى نقمةٍ متزايدة من الأفارقة-الأميركيين ضدّ هذا الحزب الذي أكثريةُ أعضائه من البيض، كما أنّ دونالد ترامب منذ العام 2011 كان يشكّك علناً في أصول أوباما الأميركية، متّهماً إياه بأنّه مولود خارج الولايات المتحدة، ممّا يَجعل رئاستَه غيرَ دستورية.
في هذه الأجواء، بدأت تجمّعات ممنوعة مِثل «الكو كلوكس كلان» الذي كان مؤلّفاً من مواطنين بيض يكرهون السود ويمارسون بحقّهم شتّى أنواع التنكيل باستعادة بعض أنشطتِها سرّاً، كذلك نشأت تجمّعات يَعتبر المنتمون إليها أنّ العرق الأبيض يتفوّق على العرق الأسود، وكذلك مجموعات من النازيّين الجُدد الذين يمارسون شعائرَ ورموزاً شبيهة بتلك التي كان يمارسها النازيون أيام هتلر المعروف بكراهيته للجنس الأسود.
وقد تفاقمت الأمور منذ عامين عندما دخَل شاب أبيض متطرّف عنصريّ كنيسةً يؤمُّها المصَلّون السود وبدأ بإطلاق النار من سلاحِه الحربي على الموجودين ما أدّى الى مقتلِ تسعة منهم وجرحِ آخرين. طبعاً لم يُخفّف إلقاء القبضِ عليه ومحاكمتُه من غضبِ الأفارقة الأميركيين وشعورِهم بالإقصاء.
في غضون ذلك، كانت تحصل مطالبات بإزالة التماثيل التي تُمجّد القادة الإنفصاليين الكثيرة في الولايات الجنوبية علماً بأنّ هذه المطالبات لا تقتصر على الأفارقة-الأميركيين، بل هنالك أعداد كبيرة من البيض الذين يساندونهم في ذلك باستثناء، طبعاً، المجموعات العنصرية المذكورة أعلاه.
ومنذ أيام، نظَّم العنصريون البيض تجمّعاً كبيراً في مدينة شارلوتفيل في ولاية فرجينيا، حاملين ليلاً المشاعلَ على غرار ما كان يفعله أعضاء «الكو كلوكس كلان» الممنوع ومعهم النازيون الجدد الذين كانوا يهتفون بشعارات عنصرية ضد السود واليهود ومَن هم مِن غير البيض، وذلك احتجاجاً على مساعٍ آيلة إلى إزالة تمثال القائد العسكري للكونفدرالية روبرت لي من إحدى ساحات المدينة.
هذه التحرّكات أدّت الى قيام تظاهرات معاكسة، خصوصاً أنّ روبرت لي كان يُحارب من أجل الحفاظ على نظام العبودية، ووجود تمثال يخلّده في تلك المدينة هو بمثابة إهانة واحتقار للأفارقة-الأميركيين الذين يعيشون فيها. أثناء المواجهات بين الفريقين، قام أحد المتطرّفين البيض بدَهسِ عددٍ من المتظاهرين بسيارته، ما أدّى إلى مقتل إحدى الناشطات المناوئة لمواقف المتطرفين، وقد حصَلت مناوشات عديدة وتضارُب بالعصي والأيدي بين الفريقين.
تصريح الرئيس دونالد ترامب ضدّ أعمال الشغب والتفرقة جاء عامّاً ولم يُسَمِّ العنصريين البيض بالإسم لإدانتهم، وهو معروف منذ حملته الانتخابية بأنه ضدّ المهاجرين والمسلمين ويَميل الى حدٍّ ما في اتّجاه أبناء العِرق الأبيض وليس من المقرّبين من الأفارقة-الأميركيين، فتعرّض لكثير من الانتقاد واللوم واضطرّ بعد يومين الى تلاوة تصريح مكتوب يَنبذ فيه هؤلاء العنصريين، ولكنّه في مؤتمر صحافي لاحِق حول برنامج إعادة تأهيل البنى التحتية، سُئل عن أحداث شارلوتفيل فما كان منه إلّا أن أكّد بإصرار وبلهجة قاسية أنّ المسؤولية تقع على الفريقين، مساوياً بذلك بين المتطرّفين العنصريين والمطالبين بالمساواة بين جميع المواطنين.
هذا الموقف الرئاسي الواضح أدّى الى كثير من الانتقاد لترامب حتى من أعضاء الحزب الجمهوري الذي أوصَله إلى الرئاسة، ناهيك عن استقالات مِن المجلس الاستشاري للصناعيين والمجلس الاستشاري الاقتصادي التابعَين للبيت الأبيض اللذين سارَع ترامب إلى حلّهما تجنّباً لمزيد من الإحراج، وكذلك استقال الأعضاء السبعة عشر من المجلس الاستشاري لشؤون الفنّ والثقافة.
يوجد في الولايات المتحدة، خصوصاً الجنوبية منها، مئات التماثيل التي تخلّد أبطال وقادة الانفصال، كما توجد شوارع بأسمائهم ولوحات تذكارية، وقد بدأت موجة قوية بالمطالبة بإزالة جميع هذه الرموز من الساحات العامة، وبالفعل، فقد قامت رئيسة بلدية مدينة بالتيمور بإزاحة أربعة تماثيل في إحدى الليالي تجنّباً لوصول أعمال الشغب الى مدينتها، كما حصَل الأمر نفسُه في مدن أخرى.
تصريحات ترامب شجّعت العنصريّين وهم الآن يتنادون للتظاهر في الأماكن التي يسعى سكّانها إلى إزالة تماثيل ورموز الحالة الانفصالية، وقد تحدَّثت بعض الصحف عن احتمال تطوّرِ النزاع معتبرين أنّ حرب التماثيل لن تقف عند هذا الحد.
مع أنّ نشوب حرب أهلية في الولايات المتحدة أمرٌ جدُّ مستبعَد وغيرُ واقعي، إلّا أنّ شخصية ترامب الصدامية، وتأييدَه المبطَّن للعنصريين البيض وبُعدَه الواضح عن الأفارقة-الأميركيين، من شأنه أن يؤجّج الصراع الداخلي خصوصاً إذا ما تبيَّنَ من التحقيقات الجارية حاليّاً في الكونغرس ومن قبَل المحقّق الخاص ضلوعُ روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى جانب ترامب، إذ إنّ كثيرين يعتقدون أنّ هذا الرئيس لن يتورّع عن القيام بأيّ عمل لإشاحة الأنظار عن مشاكله، فهل تكون حرب التماثيل مقدّمةً لتطوّرات كبرى على الساحة الداخلية الأميركية؟