عملياً، إن معركة الجيش ضد تنظيم داعش لم تبدأ فجر السبت مع إطلاق عليها إسم فجر الجرود. هذه المعركة بدأت منذ أكثر من أسبوع من خلال القصف العنيف الذي ركزه الجيش ضد مواقع التنظيم. الإعلان عن فجر الجرود جاء للايحاء بأن المعركة انتقلت إلى مرحلتها الثانية، التي يتخللها التقدّم الميداني لوحدات الجيش في اتجاه الشرق، للسيطرة على التلال والمواقع التي يحتلّها تنظيم داعش. المرحلة الثانية، موزعة عسكرياً على مراحل متعددة، هي عبارة عن أهداف عسكرية وميدانية يضع الجيش نصب عينيه تحقيقها، وتقوم هذه الإستراتيجية على مبدأ القضم البطيء والتقدم وفق خطّة محكمة، بدون وضع مدة زمنية محددة لانجاز ذلك.
في اليوم الأول للمعركة، سيطر الجيش على نحو 35 كيلومتراً من الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم. وكان ملاحظاً عدم حصول اشتباكات عنيفة بين الطرفين، إذ إن عناصر داعش فضّلوا الإنسحاب على خوض اشتباكات، لأسباب عدّة، أولها أن الجيش ومن خلال عمليات القصف كان يحقق إصابات مباشرة، ما أجبر مسلحي التنظيم على الانسحاب، وثانيها أن خيارات انسحاب عناصر التنظيم ترتكز، وفق البعض، على أنهم يريدون التواري داخل العمق الجردي واللجوء إلى مغاور يصعب استهدافها، وربما ذلك للإنطلاق منها للقتال، أو لأجل الانسحاب نهائياً من الجرود عندما تسمح الفرصة بذلك.
يعرف الجيش قدرته على إنجاز المهمة، عامل الثقة المرتفع لديه، هو ما يمنحه القدرة على التحكّم بمسار المعركة، والإحجام عن أي استعجال لإنجازها، لأن أي استعجال أو خطأ في التقدير، أو حماسة زائدة، قد تؤدي إلى وقوع خسائر يستطيع الجيش تفاديها. لذلك، لا يضع في حساباته هاجس الفترة الزمنية، والإسراع في تحقيق التقدم. وهذا ما يبدو واضحاً من خلال عمليات القضم البطيء التي بدأها، وإذا ما قسّم عمليات تقدّمه على مراحل، تشمل كل مرحلة السيطرة على نحو 35 كيلومتراً، يعني أنه يحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أيام، لتضييق الخناق على التنظيم وحصره في بقعة محددة، ودفعه إلى الإستسلام والانسحاب. عملية القضم البطيء والمحاصرة، لها هدف آخر أيضاً، هو أنه كلما اشتد الخناق على التنظيم، يغدو في الإمكان إنتزاع تنازلات من التنظيم والحصول على معلومات بشأن العسكريين المخطوفين.
يعرف التنظيم، أن المعركة خاسرة، حتى وإن لجأ إلى أسلوبه المعروف في القتال، أي تنفيذ عمليات إنتحارية وإنغماسية، خصوصاً في ظل معلومات تتحدّث عن أن العديد من مقاتلي التنظيم مستعدون لتنفيذ عمليات انتحارية. لذلك، فإن هناك احتمالين لانسحابه من الخطوط الأمامية، وهما الإعداد لهكذا عمليات في المستقبل، أو أنه يعلم أن هذه العمليات لن تسمح له بإحداث أي تغيير في موازين القوى، خصوصاً أن قيادته متأكدة من أن البقاء في تلك البقعة أصبح مستحيلاً وممنوعاً.
ويدعم خيار الجيش تحقيق أهدافه بتروٍّ وحرص، لجوء تنظيم داعش إلى زرع الألغام والمتفجرات في الطرق والمعابر التي يفترض أن يسلكها الجيش في تقدّمه. وقيام فوج الهندسة بإزالة هذه الألغام والمتفجرات يحتاج إلى وقت. ولكن، من جهة أخرى، يبدو لافتاً لجوء التنظيم إلى الإنسحاب وتسليم عناصره أنفسهم إلى حزب الله من الجهة الشرقية من الجرود، وتحديداً في جرود الجريجير. وقد قوبلت الفيديوهات التي تسجل ذلك بعين الإستغراب، ويسأل بعض المتابعين لماذا سلّم هؤلاء أنفسهم إلى حزب الله والجيش السوري، ولماذا يبدو هؤلاء الأسرى مرتاحين وهم في الأسر؟ وقد ظهروا في بعض الصور يتجوّلون محتفظين بهواتفهم، والضحكات مرسومة على وجوههم.
هذا الجانب من المشهدية دفع كثيرين إلى طرح أسئلة عن حقيقة الأمر، فيما علّق أحد قادة الجيش الحر في القلمون، على الفيديو الذي يظهر فيه الأمير الشرعي للتنظيم المعروف بأبي البراء واسمه الحقيقي أحمد وحيد العبد، مذكراً بأن العبد ومجموعته هما من حاصر فصائل الجيش الحر في معركة القلمون الأولى التي سيطر فيها حزب الله على يبرود. واعتبر أن المعركة التي خاضها العبد ضد الجيش الحر هي التي أسهمت في خسارته في الجبة، وتقدّم حزب الله إلى هناك. أضاف القيادي أن للعبد باعاً طويلاً في تعبئة عناصر التنظيم ضد المعارضة السورية، وتكفيرها، كما كان له دور في محاصرة فصائل المعارضة في القلمون الغربي في العام 2015، لدى اندلاع معارك بين هذه الفصائل من جهة وحزب الله والجيش السوري من جهة أخرى.
استطاع الجيش اللبناني السيطرة على كثير من التلال والمرتفعات، التي تمتد من جنوب جرود رأس بعلبك إلى شمالها. ويعمل على عزل مجموعات التنظيم في أكثر من نقطة وموقع. وهو يسعى إلى الربط عسكرياً بين جرود عرسال وجرود رأس بعلبك، والسيطرة على خربة داود التي تعتبر معقلاً أساسياً للتنظيم على الخطوط الامامية لمناطق سيطرته. والهدف المقبل من ذلك هو استكمال التقدّم وحصر مجموعات التنظيم في بقعة جغرافية صغيرة، بهدف الضغط عليها للانسحاب. وهناك من يخشى اختفاء مقاتلي التنظيم وقيادييه في تلك المنطقة، كتكرار لسيناريو شاكر العبسي. من يطرح هذه المقاربة، يستند إلى تسليم الدواعش أنفسهم إلى النظام السوري، أو إلى حالات اختفائهم وتبخّرهم في الموصل.