بالإضافة الى الخطّ العسكري المفتوح بين بيروت ودمشق امام المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم وآخر امام الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني ـ السوري نصري خوري وعدد من الديبلوماسيين في سفارة لبنان في دمشق، ليس سرّاً القول إنّ خطّ بيروت ـ ما زال مفتوحاً في مرحلة أعقبت قطيعة شبه شاملة إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتحميل فئة من اللبنانيين القيادة السورية من أعلى الهرم مسؤولية التخطيط والتحريض والتنفيذ وهو ما لم تعترف به فئة من اللبنانيين يتقدّمها الثنائي الشيعي وما يدور في فلكه وقيادات لبنانية أخرى تحتفظ بعلاقات حزبية وسياسية وأخرى عائلية متينة مع آل الأسد وغيرهم من أركان القيادة السورية.
وباستثناء الزيارة اليتيمة التي قام بها الرئيس سعد الحريري خريف العام 2009 الى العاصمة السورية على وقع المساعي التي بُذلت بين الرياض ودمشق لترطيب الأجواء بينهما ومع لبنان، فالتواصل قائم بين أركان النظام وأصدقائه المتبقّين له في لبنان على أكثر من مستوى ودون أيّ حرج.
كان ذلك قائماً قبل أن يتدخّل «حزب الله» في العمليات العسكرية الجارية على الأراضي السورية منذ العام 2012 وبعدها وصولاً الى المرحلة التي تحوّلت فيها زحمة السير قائمةً على طريق هجرة مليون ونصف المليون سوري تركوا أراضيهم وقصدوا لبنان نازحين ولاجئين بالإضافة الى اولئك الذين تحوّل مطار بيروت الدولي مقصداً وبوابة العبور الوحيدة بالنسبة اليهم من المسؤولين على كل المستويات العسكرية والديبلوماسية والقياديّين والمواطنين الى العالم الخارجي منذ 2015 وحتى بداية السنة الجارية بالإضافة الى كونه تحوّل القاعدةَ الخلفية لإنطلاق عمل فرق وممثلي الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية العاملة في سوريا على أكثر من مستوى.
ورغم كل هذه الوقائع التي لم تكن تشكل أيّ أهمية في حينه، لا في شكلها ولا في توقيتها ومضمونها بالنظر الى كونها كانت تحظى بتغطية لأسباب إنسانية أو ديبلوماسية، فقد فرضت الخطوة التي أقدم عليها وزراء «الثنائي الشيعي» و«المردة» الثلاثة في اتّجاه دمشق قراءةً أخرى نظراً الى معطياتٍ عدة تجاوزت كونها علانية الى الشكل والمضمون والنتائج وأبرزها:
• في الشكل، تقدّمت علانية الزيارة على ما عداها، فهي جاءت تلبية لدعوات نظرائهم السوريين للمشاركة في معرض دمشق الدولي والتي لم تكن الأولى في السنوات الماضية، لكن استُعيض في حينه عن حضور البعض منهم شخصياً بمسؤولين من الفئة الأولى أو عبر قياديين حزبيين.
• في المضمون، إنّ الزيارة لا تعدو كونها حضوراً لحفل افتتاح فعاليات المعرض الدولي الثالث الذي أُعلن عنه تحت شعار «إعادة إعمار سوريا» فكان حضورهم مميّزاً نظراً الى حجم الإستقبال الذي نُظّم لهم على رغم أنّ حضورهم على المستوى الوزاري كان يتيماً وتقدّم على ممثلي بقية الدول من بين مجموعة ممثلي اصدقاء سوريا والمحور الذي تنتمي اليه.
• أما في النتائج فتختلف الصورة انطلاقاً من توقيتها في المعايير السياسية والعسكرية. فقد جاءت لتتوِّج الحملة التي يقودها النظام السوري احتفالاً بتوفير شبكة الأمان العسكرية والأمنية للعاصمة السورية وعلى وقع ما تسمّيه الإنتصارات التي حققها الجيش السوري على أكثر من جبهة وتلك التي أحرزها «حزب الله» في القلمون الشرقي وصولاً الى تلال عرسال اللبنانية ما شكّل نقطة انطلاق الى مرحلة جديدة برز فيها وجهٌ من وجوه التحدّي التي تقرّر المباشرة بها في مواجهة الأطراف التي ما زالت تتمسّك بالقطيعة الشاملة مع النظام في سوريا.
وإن كان البعض قد فسّر الزيارة على أنها تحد لرئيس الحكومة فقد خفّف بعض المعلومات من وهج التهمة. فهو، أي رئيس الحكومة، لم يعترض على الزيارة شرط أن تبقى «شخصية» من دون أيّ صفة أو طابع رسمي على عكس ما أراده الوزراء الثلاثة منها، على رغم معرفتهم بما يمكن أن تُلحقه من أضرار بالتضامن الحكومي الهش. فهم يتمتّعون بغطاءٍ شامل من خلال مَن يمثلون على مستوى الثنائية الشيعية وتوجّهات «المردة» السياسية.
ويُضاف الى ذلك الموافقة الضمنيّة المتوافرة لدى رئيس الجمهورية على رغم التمايز الذي عبّر عنه وزير تكتل «التغيير والإصلاح» رائد خوري الذي قرّر عدم تلبية الدعوة من دون قرار واضح وصريح بتكليفه المهمة من مجلس الوزراء، وهو أمر لم يُعطِه أحد أيَّ أهمية، فموفدو رئيس الجمهورية ووزارؤه قصدوا سوريا أكثر من مرة وتقدّمهم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية الأكثر التصاقاً به بيار رفول، ولو بنحو غير علني.
وعلى رغم سلسلة الملاحظات هذه فقد شكّلت هذه الزيارات، حسب قراءةِ ديبلوماسيٍّ غربيّ في بيروت، بداية لمرحلة جديدة أراد منها اصحابها الإنتقال خطوةً الى الأمام في المواجهة التي لن تكون مع الداخل اللبناني بوجود أكثر من 11 الف مقاتل من «حزب الله» هناك، وإدارته المعارك على جبهات عدة بواسطة عشرات الألوف من «وحدات الدفاع الشعبي» السورية ومجموعات أخرى من المتطوّعين من جنسيّات إيرانية وعراقية وأفغانية بالتنسيق مع «الحرس الثوري الإيراني».
كما أنها شكّلت مناسبةً ليستفيدَ منها النظام السوري بهدف استعادة وجهٍ من وجوه شرعيته العربية على رغم تواضعها قياساً على حجم المقاطعة العربية شبه الشاملة.
وعليه ينتهي الديبلوماسي الى القول إنّ النظام سيعرف كيف يستفيد منها ليس على الساحة اللبنانية فهي مستهلكة، ولم تعد تنتج له أيّ أرباح رغم تغريدة السورية الأولى أسماء الأسد بما حملته من رسائل تجاه لبنان الرسمي والحزبي، انما على الساحة العربية في خضمّ المواجهة مع أكثر من حليف وعدوّ.
لافتاً الى أنّ النظام اعتاد خلال السنوات الماضية من الأزمة أن «يحفر الجبل بإبرة» وهو ما يعني أنّ الزيارة لن تتعدّى هذه المعايير في النتائج المترتّبة عليها وما تبقّى مرهون بالتطورات التي يقودها الثنائي الأميركي ـ الروسي في سوريا وقدرة الإيرانيين والسوريين على التأثير فيها.