إستيقظتْ متأخّرة متعبة، خرجَتْ من سكن الطالباتِ في مجمّع الشهيد رفيق الحريري مسرعة وكأنّ صراصير بيروت كلّها تزحف وراءها وتلاحقها، لم يكن لديها الوقت لتسرّح شعرها الأسود، فرفعته وثبّتته بقلم رصاص.
السّاعة تُقارب الثّامنة والنّصف، يقول لها سائق الأجرة السّتيني "بدك تنزلي قدّام الكلّية أو بنزلك عالكافيتريا لقدّام شوي؟"، تجيبه بإستغراب "لا عالكلّية"، تتمنّى لو أنّ كلّيتها كانت داخل المجمّع، ثم تواسي نفسها "لا بأس".
تدخل قاعة المحاضرات، تلقي التحيّة على الدكتور الذي يصل دائمًا قبل طلبَته إلى الصّف، كان يلبس بزّة سوداء تخفي ما استطاعت من كرشه الكبير، جالسٌ على طاولته يشرب فنجاناً من القهوة، يتصفّح كتاباً، يتأمّل المقاعد الفارغة، وينتظر كعادته. "كيف حالك بنّوت"، تبتسم له "بخير".
يمنح الطلبة نصف ساعة إضافيّة ليصلوا، أولئك الذين يتذرّعون كعادتهم وفي كل أيّام السّنة الدراسيّة من دون إستثناء أنهم تأخّروا بسبب زحمة السّير.
تبدأ المحاضرة، تسترقُ السّمراء ما استطاعت من كلمات الدكتور السريعة، تسجّل كلماته كمحقق يستمع إلى شهادة متّهم. يقاطعه شاب من الذين يحضرون "رفع عتب" وهو يمضغ العلكة "دكتور هلأ هودي يلي عم تحكيهون فيهون كور"؟ ويا ويل الدكتور إن قال له "لا يوجد كور"، ويا ويله إن قال "نعم هناك كور".
ففي الإحتمال الأوّل سيُتّهم الدكتور بأنّه غير مكترث ولم يجمع محتوى المادة في صفحات واضحة، وفي الإحتمال الثاني سيُتّهم متلبّساً بأنّه يريد من الطلبة أن "يبلعوا" الكور و"يبصموه"، فيحوّلهم إلى ببغاوات، "واحترنا يا قرعة من وين بدنا نبوسك".
مدّة المحاضرة ساعتين، تشعر السّمراء بشلل في يدها فالدّكتور لم يلتقط أنفاسه ولم يتحدّث عن مغامراته في فرنسا أو أميركا ولا عن مراهقته ولا عن طفولته، ترفع يدها "هل يمكن أن تمنحنا 5 دقائق من ثمّ نستكمل الدّرس"، يبتسم لها إبتسامة عميقة، ويومىء برأسه. تهمس في نفسها "أريد أن أصادف أحد الأساتذة الذين أقرأ عنهم على مواقع التواصل، أولئك الذين يحاضرون لربع ساعة عن مغامراتهم ويرحلون، أين هم؟ اللهم ارزقني أحدهم فقد تعبت من الكتابة".
يخرج الأستاذ الأوّل وسط تأفف وتذمّرالطّلبة "عوّفنا حالنا عند هالصّبح، بدنا نتروّق". تدعوها إحداهن للتوجّه إلى "الكافيتريا" لتناول الفطور، تجيبها "بس هلأ في محاضرة كتير مهمة"، يتسرّب عددٌ من الطلبة، يتغيّبون عن المحاضرة الثانية رغم أنّهم يعرفون أنّ نظام الجامعة اللبنانيّة يفرض نسبة حضور 70% في بعض الكلّيات ليحق لهم التقدّم إلى الإمتحان النهائي.
إنّها السّاعة الثانية والنّصف، تصدر إحدى العلامات، تشعر السّمراء بفرحة عارمة حين تنال العلامة التي كانت تتوقّعها، تقف إلى جانبها إحداهن، وهي سنة ثانية إختصاص "أرغيلة"، تقول أنّها رسبت لأنّ الدكتور هذا لا يصحح وتضيف "الكل بيعرف هيدا بصحح عالكيلو". تستمع إليها السّمراء بقرف، تستغرب كيف نالت العلامة التي كانت تتوقعها. يضيف الشّاب "أبو علكة"، "هيدا الدكتور "نسونجي"، ما بنجّح الشباب، بدّك تنجحي قصري التنورة. تنظر السّمراء إلى بنطالها والقميص المحتشم الذي ورثته عن أختها الكبرى: "تنورة"؟! يمرّ في ذهنها الدّكتور المتّهم بأنّه "نسونجي" تذكر ملامحه الطيّبة وابتسامته الهادئة ونظراته الأبويّة.
تسمع أحدهم وهو متخصّص "طق حنك"، يعترض على المذكّرة التي تحدد موعد الدّورة الثّانية في شهر حزيران بعد صدور نتائج الدّورة الأولى بأسبوعين، "أيمتا بدنا نلحّق ندرس يعني؟ خلّونا ناخد نفس!"، هو نفسه كان يعترض سابقًا على كون الدّورة الثانية في شهر أيلول خلال السّنة الفائتة، إذ كان يقول "بدنا نعمل الدورة التانية ونعرف ننبسط بهالعطلة، بعدين عم ننسى كلّ شي درسناه، لو بقربوها منكون بعدنا بجو الجّامعة". ومجددًا.. حترنا يا قرعة!
تدخل أحد حمامات الكلّية لتسيّج عينيها السّوداوين بالكحل الذي بهت لونه. لا تلبثُ أن تنظر في المرآة لحظة حتى تبدأ احداهن بالتذمّر "الحمامات نصفها معطّلة، الرائحة كريهة، الأبواب مخلّعة، المرآة محطّمة".
ينهمر "النّق" فوق رأسها، تمسح كحلتها كلّها وترحل، تصنع لنفسها جرعة أمل لن يمنحها إيّاها أحد هنا، لقد تركَتْ الضّيعة لتدرس في هذه الكلّية، كانت سعيدة جدًا حينَ عرفت أنّ رسم التسجيل 350 ألف. ماذا لو لم يكن هناك جامعة لبنانيّة؟ كان والدها سيضطر حتمًا لبيع كليته أو طحاله أو بنكرياسه ليسجّلها في جامعة خاصة، فحتى الجامعات المعروفة على أنها "دكاكين" تفرض رسوماً عالية جداً.
تهمس في نفسها "إن كنتم لا تستطيعون تحمّل التفاوت بين حيطان منازلكم المرصّعة بالألماس، وحيطان كلّيتنا "المهرهرة" فإرحلوا إلى احدى الجامعات الخاصة، عساكم تجدون هناك أساتذة من المريخ "أفهم" من أساتذة كلّيتنا، عبّروا عن مواهبكم، واقضوا أيامكم الدراسيّة كاملة في الحمام حيث المرايا التي تلمع. اسكنوا في الحمام وناموا فيه أيضًا".
تتوجّه إلى الإدارة، تستقبلها الموظّفة بإبتسامة، تنجز لها معاملتها بسرعة فائقة. تحاول السّمراء البحث عن الموظفين المتّهمين على مواقع التواصل بأنّهم متلكّئين ومهملين ولا يريدون أن يعملوا. أين هي الموظّفة الإداريّة "المعنسة" المعقّدة، والتي تغار من الطالبات، وتعاني من أمراض نفسيّة؟ "اغفري لهم، هم المرضى".
في المحاضرة الأخيرة، تقول لها الدكتورة الأربعينيّة الأنيقة منيرة، حين تراها متعبة ومريضة جدًا، أن بإستطاعتها أن ترحل وستعيد لها الإمتحان لاحقًا، لكنّها تُصر على البقاء، ما إن يبدأ الإمتحان حتى تُخرج الدكتورة منيرة قطعة من الشوكولا من محفظتها وتضعها على طاولة الفتاة السّمراء المرتبكة، ينتهي وقت المسابقة. "هل تحتاجين المزيد من الوقت؟ لا بأس أنا أنتظرك أكملي". تبتسم لها، تكمل الكتابة بيدين مرتجفتين قلقًا ومرضًا.
تخرج من القاعة، يحاول شاب من مجلس طلّاب الفرع أن يقلّها بسيّارته إلى السّكن، هذا المجلس المتّهم بأنّه طائفي ومتعصّب ويكره الطائفة التي تنتمي إليها، ويرفض التيّار السّياسي الذي تؤيّده علنًا، ترفض وتشكره بكثير من الإمتنان، فيرافقها إلى خارج الكلّية، يوقف لها سيّارة أجرة ويوصي السّائق بإيصالها فوراً "ما تبرّمها لبنان والكوكب، وصّلها دغري لو سمحت".
تصل إلى سكن الطالبات في مجمّع الشهيد رفيق الحريري، تتوجّه إلى مستوصف المجمّع، تفحصها الطبيبة، تعطيها الدواء المناسب وبعض الإرشادات، وتكتب لها على علبة الدواء رقم هاتفها "إن لم تشعري بالتحسّن اتّصلي بي، قد أرسل لك احدى صديقاتي من كلّية الطّب.. "شكرًا لك دكتورة".
تدفع هذه الفتاة 167 ألف ليرة لبنانيّة في الشهر الواحد، مقابل غرفة تتشاركها مع طالبة أخرى، حيث تتوفّر المياه والكهرباء والتدفئة والتكييف المركزي، وخدمة الإنترنت دون أيّ انقطاع.. وأهم من ذلك فإنّها تجد الأمان هناك، تنام ملء عينيها ولا تخاف من التعرّض لأي حادث تحرّش أو تصرّف لا أخلاقي قد تصادفه في سكن مشابه في أماكن خارج حرم الكلّيّة.
تشرب الدّواء، تتصفّح هاتفها، فلا تجد إلّا المزيد من القصص المبالغ فيها عن الجّامعة والتي كُتبت بأسلوب ركيك، قصص يتذرّع بها البعض ليبرروا تقصيرهم ورسوبهم واستهتارهم. تغمض عينيها، تطمر رأسها، يخال لها أنها تسمع صوت عرير صرصور ينتظر أن تغفو ليشب عليها، هو صرصور كسول جدًا، يغنّي لها "بكرا النّق وبكرا النّق".
ماذا عن اولئك الذين يشربون من بئر الجامعة اللبنانيّة ويرمون فيها الحجارة؟ هؤلاء الذين لا يملكون الوفاء للجامعة التي يتعلّمون فيها بشكل شبه مجاني، بينما كلّ قطاعات الدّولة تتجه نحو رفع رسومها، هؤلاء الذين لا يمتنّون للكلّيات التي يحاضر فيها النخبة من الأساتذة بكل تواضع.
لا يمكن التغاضي عن مشاكل الجامعة لناحية التجهيزات أو المباني أو الممر الشّتوي أو الحمّامات المعطّلة، أو الدوام الطويل… ولكن هل تحتاج هذه الأمور إلى كلّ هذا التذمّر ونكران الجّميلّ ومحاولات تشويه السّمعة والحط من أداء الجامعة وتصوير أساتذتها على أنّهم متحرّشون ولا يملكون أي ضمير أخلاقي… فلا يصححون ولا يعلّمون ولا يحاضرون" هل يريد هؤلاء أن تُخصخص الجّامعة اللبنانيّة ليرتاحوا؟
يؤكّد المتحدّث بإسم الجّامعة اللبنانيّة الدكتور علي رمّال أنّ أساتذة "اللبنانيّة" هم جميعاً من حملة الدكتوراه بخلاف الجامعات الأخرى في لبنان التي تسمح لحملة الإجازة والماستر التعليم فيها، مشيراً إلى الجهد الذي يبذله الأساتذة في الجامعة اللبنانيّة التي تهيّىء الطالب للدخول إلى سوق العمل، كما يلفت إلى تنوّع خبرات الأساتذة الصّادرة شهاداتهم عن أكثر من 500 جامعة معترف بها، تتوزّع على أكثر من 40 دولة حول العالم، لافتاً إلى أنّ هؤلاء ينقلون تجارب وخبرات جامعات فرنسا وأميركا وبريطانيا وروسيا وبلجيكا وغيرها من البلاد التي تعلّموا فيها، إلى الجامعة اللبنانيّة التي تُعتبر بذلك نموذجاً غير مسبوق في العالم كلّه وليس في لبنان فقط.
يشكك رمّال بصدقيّة الطّلاب الذين يشوّهون سمعة الجّامعة اللبنانيّة، ويضيف "إنّ أي قرار تصدره الجّامعة لا يهدف إلى النّيل من الطالب، بل هو لمصلحته، فكلّما ارتفع مستوى الطّالب العلمي، كلّما كان لديه فرص أكبر في سوق العمل الذي بات ضيقًا جداً". يعوّل رمّال على الطلّاب الجّديين والملتزمين، مؤكّدًا أنهم هم وحدهم من سيكملوا مسيرة الجامعة الوطنيّة التي لن يتمكّن أحد من الحط من مستواها الرّفيع.
الجّامعة اللبنانيّة جامعة المتفوّقين والمبدعين، جامعة الأغنياء والفقراء، جامعة المسلمين والمسيحيين، جامعة النخبة في الوطن من دون منازع من أطباء ومهندسين وأساتذة وقضاة وضبّاط وإعلاميين… هي بإختصار جامعة الوطن، فليرحل عنها ناكروا الجّميل، ليرحلوا ويأخذوا "النَق" معهم، ويتركوا لنا نوافذ كلّياتنا المحطمة، فالشمس دائماً تختار النوافذ المحطمة لتدخل منها… وتشرق.
(الرقيب)