«ما معك غيرها؟». سألت رباب وهي تنظر إلى ورقة الخمسين ألف ليرة في يد أحد زبائنها، مُتمتمة: «أوف هيدي شاهدي حرب الـ14»، وسرعان ما ابتسم الزبون ضحكة صفراء واستبدل الخمسين بورقة المئة ألف ليرة قائلاً: «شوفي هيدي بتعجبِك؟» فارتبكت العجوز وسارعت إلى أخذها ووضعها في الصندوق. حلّ المساء وجاء زوجها يجمع «غلّة» النهار، فاستغرب ملمس المئة، وصباح اليوم التالي أخذها إلى المصرف واكتشف أنها مزوّرة. «تُحاكي الاموال المزورة المروّج لها في السوق اللبناني نسبة 50 في المئة العملة الاصلية، لذا يصعب كشفها بسرعة»، وفق ما أكّده مصدر أمني لـ«الجمهورية».تتعدَّد أساليب الاحتيال التي تلجأ إليها عصابات ترويج العملات المزيّفة، ولا يتركون سيناريو يعتب عليهم. فما تعرّض له فؤاد لا يقل خِفّة واحتيالاً عن موقف رباب.
إذ بينما كان يجلس في دكانته دخل زبون يشتري أغراضاً بقيمة 22 ألف ليرة، دفع العشرين وأفرغ جيوبه وهو يبحث عن ألفي ليرة، ولأنّ قلب صاحب المحل حنّ عليه قال له: «خَلص مسامَح فيُن»، لكنّ الرجل وضع مجدداً يده في جيبه ليُخرج مهللاً ورقة خمسين الف، قائلاً: «الله يرضى عليك صرِفلي ياها بدّي إدفع للتاكسي».
بكلّ طيبة قلب أخذ فؤاد الخمسين ألف ليرة، ومن دون أن يخصم منها ألفي ليرة، أعاد إلى الزبون ورقة العشرة آلاف ليرة، وورقتي العشرين ألف ليرة، فغادر الزبون وعيناه تلمعان احتيالاً.
59 مليون ليرة مزورة
تتزايد ظاهرة تفشّي عصابات تزوير الاموال، بحسب إحصاءات مكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الاموال الخاصة لـ«الجمهورية». إذ سجّلت مضبوطات العام 2015 تزوير 4 آلاف و768 ورقة من فئة الـ100 دولار، و189 ورقة من فئة الـ50 دولاراً. وعلى مستوى العملة اللبنانية، توزعت على الشكل الآتي: 114 ورقة من فئة الـ100 ألف ل.ل.، و99 ورقة من فئة الـ50 ألف ل.ل.، و32 ورقة من فئة الـ20 ألف ل.ل.
وعام 2016، قفزت الارقام لتسجل 6 آلاف و679 ورقة من فئة الـ100 دولار، و447 من فئة الـ50 دولاراً، بالإضافة إلى 348 ورقة من فئة الـ100 ألف ل.ل، و434 ورقة من فئة الـ50 ألف ل.ل، و127 ورقة من فئة الـ20 ألف ل.ل، و26 ورقة من فئة الـ10 آلاف ل.ل.
وحتى 5 آب من العام 2017، سجلت الأرقام ألف و970 ورقة من فئة الـ100 دولار، و95 ورقة من فئة الـ50 دولاراً، و66 ورقة من فئة الـ100 ألف ليرة، و45 ورقة من فئة الـ50 ألف ليرة، و102 ورقة من فئة الـ20 ألف ليرة.
في هذا السياق، يؤكّد مصدر أمني لـ«الجمهورية»، «انه لا يمكن الإستخفاف بمجموع هذه الأرقام. عام 2015 كنّا امام 16 مليون و990 ألف ل.ل.، وعام 2016 بلغنا الـ59 مليون و300 ألف ل.ل. و«الحبل ع الجرّار».
ويضيف: «ليست فقط كمية التزوير التي ترتفع إنما فئة العملات المزيفة تتنوّع، وبتنا أمام مروحة واسعة من التزوير تطاوِل الدولار، الليرة اللبنانية، الليرة السورية، ريال إماراتي، ريال سعودي، دينار كويتي، يورو، والدينار العراقي».
كيف تعمل العصابات؟
الحبر، مزج صبغات، آلة طابعة، برنامج فوتوشوب، خيط الكتان... هذه عيّنة من المكوّنات التي تستخدمها العصابات في تزويرها العملات. مواد «أوّلية» في حسابات هؤلاء، ينفردون بها في قبو أشبه بـ«أتوليه» اختبار، أقرب إلى عقار مهجور في واحدة من المناطق اللبنانية النائية.
تتنقّل تلك العصابات بشكل ثنائي، يأخذ كل فرد الموقع بحسب ظروف العملية والضحية المرصودة، وغالباً ما يقع اختيار تصريف العملات المزورة على المناطق البعيدة، محطات الوقود، والدكاكين الصغيرة التي تفتقر إلى وسيلة فحص المال.
في هذا السياق يوضح المصدر الأمني نفسه: «يتوزّع عمل تلك العصابات، المتواجدة معظمها في مناطق بقاعية، على مستويين. هناك الـbig boss الذي يبقى في معظم المرّات خلف الكواليس، يهتمّ بالإعداد لتزوير مبلغ محدد، والكمية اللازمة من الورقة المستخدمة، وسوق تصريفها والغاية منها. ويملك مدير العملية مجموعة من المنفذين الذين يتنقلون كأداة لتحقيق الهدف والسيناريو المرسوم في اصطياد الضحية».
ويضيف المصدر: «95 في المئة من المزوّرين والمروّجين هم ذكور، ينتمون إلى الفئة العمرية بين الـ17 والـ50 سنة، وأحياناً تتمّ الاستعانة بالإناث لإضفاء ثقة على العملية وتبديد الشكوك من ذهن الضحية».
245 موقوفاً و2000 محضر
تتعدّد المستويات التي تنتهجها القوى الامنية في مكافحتها عصابات تزوير الاموال، ومنها: إعتماد أسلوب استدراج المشكوك في أمرهم وأحدثها عملية الاستدراج التي حصلت في مدينة عاليه والتي على أثرها أوقف شخصان بحوزتهما مبلغ 98 ألف و300 دولار مزيفة، واعترفا بأنهما يصرفان كل ورقة مئة دولار مزيفة مقابل 50 دولاراً أميركياً سليمة.
كذلك تلجأ القوى الامنية إلى الاستعانة بمخبرين، وتقصّي تحركات بعض المشبوه في أمرهم، إضافة إلى تتبّع موجة شكاوى المواطنين سواء عبر خدمة «بلّغ» على الـ112، أو عبر اتصالهم بمكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الاموال.
وبالعودة إلى إحصاءات مكتب مكافحة الجرائم المالية، يتبيّن لنا أنه في العام 2015 أوقف 245 شخصاً، وسُطّر 2164 محضراً. وعام 2016، أوقف 266 شخصاً، وسُطّر 2897 محضراً. وحتى 5 آب من العام الجاري بلغ عدد الموقوفين المروّجين للعملات المزيفة 234 شخصاً، و2004 محاضر.
في هذا السياق، يقول رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الامن الداخلي العقيد جوزف مسلّم: «التوقيفات مستمرة بصورة دائمة، وفي كل فترة تزدهر عملية تزوير لفئة محددة من العملات كموجة تتسلّل إلى المناطق وتغزو الاسواق، إلّا أنّ العملة المزيفة الأكثر ترويجاً هي ورقة الـ100 دولار، يليها 100 ألف ليرة ل.ل.، 50 ألف ل.ل. و20 ألف ل.ل».
ويلفت مسلّم في حديث لـ«الجمهورية» إلى انّ «معظم الذين يتم توقيفهم أصحاب سوابق، عمدوا إلى تزوير العملات لتغطية دين، للإتجار بالمخدرات، لتغطية أعمال غير قانونية نتيجة وضعهم المتعثّر». ويضيف: «في معظم المرات يتمّ الايقاع بالضحية من خلال عملية استبدال العملة بالأخرى، عبر شراء أغراض ذي قيمة رخيصة بمبلغ كبير، أو شراء كمية كبيرة من البضائع بمبلغ كامل، فيستفيد المزوّر للعملة بإعادة بيع البضائع».
إكتشِف المزوّرين
حيال تفشّي ظاهرة العملة المزيفة وتغلغل المروجين لها في مجتمعنا، يبرز السؤال: كيف يمكن للمواطن حماية نفسه؟ هنا يلفت مسلّم إلى مجموعة من المؤشرات، قائلاً: «لا بد من التمرّس على مَلمس ورق العملة النقدية، والتعرّف إلى بعض المفاتيح بحسب كل عملة، على سبيل المثال وجود شريط أمني يعني خط أزرق متقطع ويحتوي على حرف ل في ورقة المئة ألف ل.ل. وعلامة BDL النافرة.
وفي ورقة المئة دولار وجود خط أمني ثلاثي الابعاد، منسوج داخل الورقة، وهو خط أزرق متقطع يظهر فيه رقم المئة إذا حرّكت العملة. بالإضافة إلى خصوصية كل عملة، ننصح بامتلاك وسيلة كاشفة متوافرة بأسعار زهيدة ويمكن لأيّ مواطن التزود بها».
ويضيف: «عند ايّ شك، على التاجر الاتصال بقوى الامن الداخلي على صفحاتها (www.isf.gov.lb،@LebISF)، والاحتفاظ بنسخة عن فيديو المراقبة في الدكان لنتمكن من التعرّف إلى ملامح المروّج الذي احتال على التاجر».
السجن 5 سنوات
بحسب المادة 440 من قانون العقوبات اللبناني، «مَن قلّد أوراق النقد المصرفية اللبنانية والاجنبية، بقصد ترويجها، عوقب بالاشغال الشاقة مدة لا تنقص عن 5 سنوات وغرامة تبلغ 500 ألف ليرة على الاقل». وبحسب المادة 446، «مَن قبض عن نيّة حسنة أموالاً مزورة، وروّجها بعدما تأكّد من عيوبها، عوقب بغرامة لا تتجاوز الـ 200 ألف ليرة».
بصرف النظر عن التدابير الاحترازية التي تأخذها المصارف حول العالم، عبر توظيفها التطور التقني في صناعة العملة النقدية وتحصينها من التزوير، من الواضح ان لا حدود لضروب احتيال عصابات التزوير.
لذا، تعلو صرخة الضحايا «العقوبه قليله عِنّا»، على اعتبار انّ أفراد العصابات هم «في آن معاً مزوّرون، مروّجون، أصحاب سوابق، منتحلو صفة، أحياناً لصوص وتجار مخدرات...». لذا، يطالبون الدولة في التشدّد أكثر معهم، خصوصاً أن لا أحد يُعوّض على جَنى عمر هؤلاء الضحايا. فهل يكون الحل بالانتقال إلى الدفع الإلكتروني؟