لكنّ طهران رأت العكس، واعتبرت أنّ معركة حلب هي الأهم، لِما تمثّله من وزن سكّاني واقتصادي. وأفضى هذا النقاش آنذاك إلى اقتناع الروس بأولوية حلب في ظلّ ظروف النزاع حينها.اليوم ثمَّة توافق داخل المحور الداعم للنظام السوري على أنّ معركة دير الزور تمثّل الجولة الاستراتيجية الأخيرة من سباق الميدان في ربعِ الساعة الأخير قبل بدءِ مسار الحلّ السياسي للأزمة السورية.
وفوق رقعةِ شطرنج ميدان دير الزور، تتسابق حالياً ثلاث قوى لنيلِ سبقِ تحريرها من «داعش»، وهي:
• قوات النظام مدعومةً بغطاء جوّي وسياسي روسي، وحلفاء محسوبين على إيران. ووصَلت هذه القوات حالياً عبر البادية وانطلاقاً من تدمر إلى بلدة السخنة المعتبَرة «البوّابة الجنوبية» لدير الزور.
• القوة الثانية لا تزال قوّةً «نظرية» وقوامُها ما يُشاع من أنّ واشنطن تعمل لإنشاء «جيش التحرير الوطني» للسيطرة على دير الزور، وهو يضمّ عشائر وفصائل من «الجيش السوري الحر» من أبناء محافظة دير الزور/ العرب السنّة. وأبرز هؤلاء «أسود الشرقية» من 800 إلى 1200 مقاتل، و«مغاوير الشرقية» 500 مقاتل، و»قوات النخبة» التي يقودها أحمد الجربا وبعض القوى العشائرية.
حتى الآن لم يتشكّل «جيش التحرير الوطني». وتنفي مصادر «أسود الشرقية»، القوّة الأساس في هذا الجيش المفترض إنشاؤه، أن تكون واشنطن قد فاتحَتها بهذه الفكرة، وتؤكّد أنّ كلَّ ما تمّ إنجازه خلال الأسبوع الفائت، هو القيام - وبمبادرة منها - بإنشاء «هيئة سياسية» تضمّ فصائل مسلّحة أساسية من محافظة دير الزور، وفعاليات منها.
ومهمتُها التشاور في ما بين أطرافها، لإنشاء «لوبي» من أبناء منطقة دير الزور، ينتزع قراراً دولياً يُكلّفها خوضَ معركة إخراج «داعش» منها، وذلك بدعم التحالف الدولي عسكرياً وسياسياً.
• القوّة الثالثة موجودة في ميدان محافظة دير الزور، ولكن هناك إشكالية كبيرة حول ما إذا كان من الحكمة السماحُ لها بالمشاركة، والمقصود هنا «قوّات قسد». والمشكلة في الأساس من الأكراد الذين يوجد بينهم وبين غالبية أهالي محافظة دير الزور السنّة العرب، حساسية عالية. والأخيرون يرفضون دخولَ الكرد إلى محافظتهم.
وكلّ هذه التعقيدات المتشابكة، تجعل ميدان دير الزور، يعاني من أحجية الإجابة على سؤال عن الطرف الذي سيَرسو عليه في النهاية القرار الدولي لتكليفِه مهمّة إخراج «داعش» من دير الزور. على أنّ الفكرة المتداولة الآن، تفيد بوجود توافق اميركي ـ روسي على تقاسم النَصر في هذه المعركة، وذلك انطلاقاً من وضع خريطة أولويات: فواشنطن التي تعطي أولوية مطلقة لضربِ «داعش»، قد تكون مهتمّة بتجميع كلّ القوى في هذه المعركة المعتبَرة الأصعب بما لا يقاس مع معركة الرقّة، وذلك عبر خصخصةِ محاورها بين العشائر وقوات النظام وفصائل المنطقة الشرقية وحتى «قسد»، وموسكو يهمّها تسجيل حضور أساسي وقوي لحليفها النظام السوري فيها، فيما إيران تعتبرها منطقةً حيوية لها، نظراً إلى كونها إحدى بوّابات العبور الاستراتيجية بين سوريا والعراق، فيما يهمّ الكرد المشاركة فيها عبر أيّ دور، ذلك أنّ عدم سماح واشنطن لهم بالمشاركة، سيمثّل من وجهة نظرهم رسالةً اميركية لطمأنةِ تركيا على حسابهم، وأيضاً رسالة للكرد أنفسِهم بأنّ دورهم ليس أكثرَ من «صحوات سورية» مؤقّتة، وبالتالي لن يقدّم لهم الحلّ الدولي للأزمة السورية، مكافأة تجسيد حلمِهم بفيدرالية كردية في سوريا.
والواقع أنّ الوقائع الميدانية خلال الفترة الأخيرة، رسمت على جبهة تسابق القوى الثلاثة للاقتراب من دير الزور، الوقائع الموحية الآتية:
أوّلاً، الاندفاعة السريعة للجيش ووصولها إلى السخنة، البوّابة الجنوبية لدير الزور، وذلك بالتوازي مع إتمامه السيطرةَ على مساحة واسعة من الحدود السورية ـ العراقية وعلى المخافر السوريّة على الحدود مع الأردن.
ما يعني عسكرياً نجاحه في قطعِ الطريق على فصائل المنطقة الشرقية للمشاركة في معركة دير الزور، ذلك أنّ كبرى هذه الفصائل، وهما فصيلا «مغاوير الثورة» و«أسود الشرقية» يتمركزان في المنطقة الجنوبية، ويحتاجان فيما لو أرادا الانتقال إلى ميدان دير الزور للمشاركة في المعركة، المرورَ في هذه المناطق التي سيطر عليها الجيش السوري أخيراً.
ثانياً، يستخلص مراقبون انطلاقاً من رصدِهم حركة الجيش السوري في اتّجاه دير الزور، إمكانية وجود تفاهمٍ روسي ـ أميركي على كيفية خوض هذه المعركة.
فالجيش السوري يتقدّم بسرعة، علماً أنه سابقاً، عندما دخل بلدة مَسكَنَة أُجبِر بقرار اميركي على التوقف بعض الشيء، وعندما دخَل الرصافة توقّف عندها للسبب نفسِه ولم يتّجه الى الأمام. والأمر نفسه حصل مع قوات «درع الفرات» التركية عندما سيطرت على مدينة «الباب» وأرادت التقدّم إلى منبج. ولكنّ اندفاعة النظام الراهنة في اتّجاه دير الزور يبدو أنّها لا تواجه «فيتو» أميركياً.
ويُستدلّ إلى ذلك، أقلّه من واقعِ وضعِ «الفيتو الأميركي الأوّلي» على مشاركة «قسد» في معركة دير الزور، وأيضاً سماح واشنطن من ناحية ثانية، للجيش السوري بخلقِ واقعٍ ميداني مستجدّ يَمنع فصائلَ المنطقة الشرقية المتمركزة في المنطقة الجنوبية من الانتقال الى ميدان دير الزور. وهذان المستندان يؤشّران إلى وجود قرار دولي بإعطاء حصّة كبيرة للجيش السوري في معركة دير الزور، بالإضافة إلى بعض عشائر المنطقة ذات الصلة بالنظام.
ثالثاً، في النظر إلى أهمّية محافظة دير الزور التي تحتوي على المخزون النفطي السوري الخام (40 في المئة من ثروة سوريا النفطية) وعلى سلّة الغذاء الزراعية لسوريا، فإنّ واشنطن يَهمّها تثبيت قواعدِها العسكرية فيها، وبالتالي إيجاد ضمانات لحصّة نفوذها في تلك المنطقة، ولذلك تميل لأن تفضيَ معركة دير الزور إلى رسمِ معالم استقرار في محافظتها التي تُعتبَر من أكبر محافظات سوريا (تمتد على مناطق صحراوية تبلغ 200 كلم2)، وذلك بالتفاهم مع روسيا.
ولكن في مقابل هذا السيناريو يوجد سيناريو آخر يتحدّث عن أنّ أميركا ستسمح للنظام بالعمل فقط من الجهة الجنوبية لدير الزور، أمّا مناطقها الشرقية حيث المواقع النفطية فستتموضع فيها قوات أميركية، وذلك وصولاً إلى «الميادين» والبوكمال. وإذا صحّ هذا السيناريو فإنّ هذا سيعني صداماً مع إيران، حيث إنّ «الحشد الشعبي» العراقي بعد انتهاء معركة الموصل تقدّمت وحدات منه بقيادة مريم النوري من جهة الشرق لجهة الشريط الحدودي العراقي مع دير الزور، وأصبح على جهوزية لنشر قواته للعمل في ميدان المعركة الخاصة بهذه المدينة.
ويَخلص أنصار هذا السيناريو إلى القول إنّ واشنطن ليست وحدها من تُقرّر في معركة دير الزور، وحتى تفاهمها مع موسكو يظلّ بحاجة إلى تفاهم مع إيران المعنية بالتنسيق معها في شأن مثلّث « دير الزور- البوكمال - الميادين».