في الحقيقة، لم تكن فكرةُ الذهاب الى القاع في ظلّ التحضير للمعركة، مُرحَّباً بها من الذين لا يعرفون هذه المنطقة وأهلها، لكن... أليست القاعُ ضيعة الشهداء الذين ذهبوا الى الموت بأنفسهم فداءً عنّا جميعاً؟ أليست هذه ضيعة الذين ينزحون من بيروت إليها رغم كل الخطر بدلاً من أن يهربوا منها وفي ظلّ غياب مقوّمات البقاء؟ إذاً... لتكن هذه الزيارة، علّها في بضعة أسطر تستطيع تجسيدَ واقع مواطنين محرومين من أبسط مقوّمات العيش والصمود، ورغم ذلك لا يتركون أرضهم. وبالفعل، لم تخلُ الزيارة من المفاجآت نسبةً لبلدة تتأهّب لمحاربة الوحش...في طريقٍ طويلة، يُرسَم خلالها ألفُ سيناريو عن حال البلدة، تزداد الرحلة عذاباً: علامَ قد نكون قادمين عندما نصل؟ شمسٌ قوية حارقة، طريق محفّرة و«ناس فاتحة عَ حسابها بالسواقة»، كلّها مؤشرات لا تبشّر بالخير، تطرح في ظلّها تساؤلات عن كيفية صمود أهالي هذه المناطق فيها، لتظهر بين الحين والآخر حواجز للجيش تُريحك مذكِّرةً إياك بأنّ الوضع ما زال بخير.
المشهدُ الصادم
تصل الى القاع، فيصدمك المشهد: أشخاص جالسون في الدكاكين على جوانب الطريق، لا تفارق البسمةُ وجوهَهم «عادي تعوّدنا»، يعلّق أحدُهم.
أولادٌ يقفزون على المقاعد الخشبية على الطريق، ونساءٌ يضعن على رؤوسهن مناشف مبلّلة بالمياه لمقاوَمة شمس آب اللهاب في طريقهنّ الى منازل الجارات... غريبة هذه البلدة، تتحضّر للذهاب إليها ويبدأ قلبُك في الخفقان منذ انطلاقك من بيروت، حيث تكون بعيداً كل البعد من المتاريس والتحصينات والمدافع والرشاشات، يزداد خفقانُ قلبك كلما اقتربتَ في الطريق، وتكون الصدمة عندما تصل إليها وترتاح، ترتاح عندما تشهَد على نخوة ما زالت موجودةً وعلى وفاء للأرض ما زال يُنقل من جيلٍ الى جيل، وعلى عنادٍ لا مثيل له في كل مناطق لبنان.
وفي ظلّ هذا المشهد النابض بالحياة، ينتشر العسكر في ساحات البلدة، والتي تحوّلت مع البلدات المجاورة مناطقَ شبه عسكرية، بدءاً من مداخلها خصوصاً أمام كنيسة مار الياس حيث تمركز الجيش بملّالاته تمهيداً للإنتقال الى مراكزه، ما يُشعر مَن يرتاد البلدة وكأنّ المعركة بدأت فعلياً، ليمرّوا بدباباتهم أمام نصبٍ تذكاري شُيّد في الساحة للشهداء الخمسة الذين سقطوا العامَ الماضي في الهجمات الإنتحارية، مذكِّراً العسكر والأهالي بضرورة المقاومة، حاملاً شعار «لم يستشهدوا لنترك أرضنا».
القاعيّون يستعجلون المعركة
أمّا الناظر الى جغرافية القاع، فيرى أهميتها الاستراتيجية التي جعلتها تعاني على مدى الأعوام الماضية كل تلك الويلات، وفي حين يجلس القاعيّون مطمئنين فإنّ الخطر الآتي من التلال المجاورة، وخصوصاً القذائف والصواريخ، يدفعهم الى استعجال المعركة.
تتصل القاع بمنطقة الحدود السورية وبجرد رأس بعلبك من جهة لبنان، وتبلغ المساحة التي تحتلّها «داعش» نحو 40 كلم وقد أعدّ الجيش العدّة جيداً للمعركة وبنى خطوطاً دفاعية، والناظر من البلدة الى الجرود يشاهد مدى الانتشار الكثيف للجيش الذي يسيطر على التلال المحيطة، بينما يتمركز «داعش» في داخل الجرود.
والأهم أنّ البيئة الحاضنة للإرهابيّين تغيب عن القاع، ومع أنّ هناك خطراً من تسلّل خلايا الى مخيمات مشاريع القاع، لكنّ هذه النقطة ساقطة عسكرياً لأنها غير متصلة بخط دعم، كما أنّ الجيش وشرطة البلدية ينفّذان مداهمات دورية.
«شكلنا شكل ناس خايفين؟»
«نحنا ناطرين المعركة مناطرة، حدا بينطر معركة؟»... بابتسامة تحمل من الهدوء ما يكفي لاستفزاز أيّ عدوّ، يعلّق أحد أبناء القاع على ما إذا كانوا خائفين من المعركة المنتظرة ضد «داعش». ويضيف فيما يرمي زهره على طاولة اللعب: «نحنا بدنا المعركة تصير، تناخد حقّ الشهداء الخمسة يلّي سقطوا السنة الماضية بالتفجيرات الإنتحارية وتنحرّر أرضنا، وهيدا حقنا»، يسكت لثوانٍ ويكمل سائلاً: «شكلنا شكل ناس خايفين؟».
ويروي إبن الضيعة أنّ «كل ضربة صاروخ لـ«داعش» تبعد السيّاح من بلدتنا، فإن كان الصيد أو المهرجانات أو الإصطياف ينعشها نوعاً ما، فإنّ الصواريخ كفيلة بإبعاد الفكرة من رؤوس الناس، إذاً لا بدّ من الإقدام على هذه المعركة لإنهاء هذا الوضع الشاذ»، مضيفاً: «مرتاحون لوجود الجيش كثيراً، فهو الحامي ونحن تحت عباءته لآخر نفَس».
العيشُ على وقع القصف
يُجمع أهالي البلدة على أنّ أصوات القصف لم تعد تعني لهم أو تخيفهم بل باتت من يومياتهم، وتروي إحدى الشابات «أننا نعيش على وقع القذائف المدفعية والصاروخية في التلال المحيطة والدوريات المكثّفة للجيش في شوارع الضيعة»، مضيفةً: «رغم أنني شابة لكنّني لستُ خائفة إذ إنّ أهلنا يخبروننا أنهم عاشوا ظروفاً أصعب، وحاربوا «دواعش» مختلفة حيث تغيّرت التسميات ليبقى مفهومُ الإرهاب نفسه على مرّ السنوات».
«صمودي بضيعتي أكبر مقاومة»
يلفّ شاربَيه بيدٍ، ويرتّب «عقاله» بالأخرى، ليمرّرها بعد ذلك على جبينٍ شهدت تجاعيدُه على ألف معركة ومعركة... يتوقف عن السير ويُدير رأسَه رافعاً حاجبيه متفاجِئاً: «خيفانين؟»، بهذه الطريقة وبكلمة واحدة يكتفي أبو مطانوس بالتعبير عن تحضيرات أهالي البلدة للمعركة: «لو فيّي إحمل سلاح ما كنت قصّرت، بس بعمري بعتبر إنو صمودي بضيعتي هوّي أكبر مقاومة»، ليضيف الرجل الذي شارف على الـ80 من عمره: «ورثنا الأرض من جدودنا بعدما سفكوا الدماء من أجلها، وهكذا سنورِثها لأحفادنا، أرض لبنانية 100%»... «8 إنتحاريين لم يخيفونا، يسألون ما إذا كنا سنخاف من 8 صواريخ؟» يضيف العجور مطأطِئاً رأسَه ومبتسِماً إبتسامةً ساخرة، ليضع يديه خلف ظهره بعدها، ويكمل رحلته تحت الشمس...
في المسبح...
لم يكن من المتوقع أن تكون الحياة طبيعية في القاع لدرجة أن يكون المسبحُ فيها مليئاً بالناس، أولادٌ وشبانٌ وشابات، يتنفّسون بعض الهواء النقي في أوقات استراحتهم من مواجهة الموت. يُجمِع الشبان على أنّ صمودَهم فيها سببه «أننا ناس منحبّ ضيعتنا بكل بساطة»، أما العسكر فباتوا لأبناء البلدة أقرب الأصدقاء، فهل أعزّ من إنسان يضع حياته في خطر من أجل البلدة؟
ويقول أحد الشبان: «العسكر مرتاحون جداً في بلدتنا، إحتضنّاهم وكأنهم أهلنا، لدرجة باتوا يتمنّون أن يبقوا فيها حيث البيئة حاضنة لهم على عكس ما كانوا يعيشونه في مناطق أخرى كان أهاليها من أكثر محاربيهم...».
لا مقوّمات صمود
رغم إمكانات القاع المحدودة، تسعى البلدية بما توافر لوضع خطة طوارئ للوقوف في وجه تداعيات المعركة المنتظرة، في ظلّ غياب أيّ خطة حكومية للتعامل مع أيّ طارئ يصيب البلدة، علماً أنّ المسافة التي تفصلها عن ساحة المعركة لا تزيد عن نحو 3 كلم.
وتشكّل البلدية المرجعية الرسمية شبه الوحيدة لأبناء البلدة، ففي القاع لا توجد سرايا أو مؤسسات دولة متطوّرة، بل بلدية يعمل رئيسُها المحامي بشير مطر على تطويرها وتلبية الخدمات الضرورية للبقاء في الأرض.
تبدو البلديةُ كخليّة نحل، «الريس» حاضر دائماً ولا يترك بلدته حتى في أيام الأمان، فكيف الحال في هذه الظروف، والأعضاء منهمكون في متابعة الأعمال وليس آخرها تعبيد الطرق الداخلية، وكأنّ «داعش» لا تتمركز على بعد كيلومترات.
مهمّاتٌ شاقّة
وفي ظل هذه الظروف، تُلقى على عاتق البلدية مهمات كبيرة هي من إختصاص الدولة، مثل تأمين متطلبات الناس، مراقبة السوريين، حفظ أرض تبلغ مساحتها 182 مليون متر مربع يقطنها نحو 40 ألف إنسان من دون تقديم سلفة الى الصندوق البلدي المستقل في المقابل لتستطيع الإستمرار، في الوقت الذي أمّنت فيه الدولة لعرسال 15 مليون دولار، وهذا ما يترك غصّةً في نفوس القاعيّين الذين يطالبون بمساواتهم بجيرانهم المحرومين أصلاً.
وفي حين تدفع القاع الضرائبَ للدولة من مياه وكهرباء وميكانيك وكل ما يتوجّب على السكان، يهملها المعنيّون وتذهب الخدمات الى المناطق التي تستقوي على الدولة وتتسلّح بقوى الأمر الواقع.
«ما رح نبوّس إيدَين»
«مهما نزل قصف علينا، نطلب من الجيش اللبناني أن يكمل معركته وألّا تردعه فكرة احتمال وجود خسائر في المدنيّين لدينا عن إكمال مهمته على أكمل وجه»، بكل حزم يقولها رئيس بلدية القاع لـ«الجمهورية»، مضيفاً: «نحن مستعدون لكل ما تتطلّبه المعركة، إذ إننا نعوّل عليها كثيراً، فالجيش يأخذ لنا حقّنا من الإرهابيين الذين فجّروا أنفسَهم بأبنائنا وحقّنا في تحرير أرضنا، وأكثر من هكذا فخر وشعور بالوطنية لن نشعر، فهذه معركة يقودها جيش وطني ضد عدوّ معروف وكل الباقي تفاصيل لا تهم».
ويضيف «الريّس» المحاط بشباب البلدة: «نحن في تصرّف الجيش لوجستياً، معنوياً، مادياً وعسكرياً، وكل ما في أرض القاع تحت أمرة الجيش، وتحرير جرود القاع من مسؤوليته أولاً ومسؤولية القاعيّين ثانياً».
أما للدولة ووزرائها فيعبّر مطر عن مللٍ واضح من معاودة المناداة بالمطالب نفسها: «منذ عام 2011 نعيش حالة «تعتير»، فهناك ضغط على الكهرباء والمياه، الطرقات مغلقة إلى سوريا، المهرجانات والإحتفالات السياحة الصيفية والدينية إلخ كلّها متوقّفة»، موضحاً أنّ «على الدولة العمل على ملف واحد صغير هو ملف تعويضات التهجير للقاعيّين منذ الحرب، فليدفعوا لهم تعويضاتهم خصوصاً أنّ المبالغ لن تساوي ربعَ مبالغ مشروع واحد صغير، فعندما يطلبون منا البقاء في أرضنا عليهم في المقابل إعطاؤنا حقوقنا».
ويؤكد مطر «أننا سنبقى في أرضنا على كل الأحوال إلّا أنّ بقاءنا يكون أصعب إذا لم تؤمَّن هذه المطالب، خصوصاً أنّ وجودنا في هذه الأرض يشكّل دعماً للجيش وتحصيناً له، ووجود المسيحيين في هذه الأرض هو دلالةُ العيش المشترَك».
ويكمل: «هذا ما نطلبه من الدولة، لن نسأل عن مستشفيات ولا عن دفاع مدني ولا عن ملاجئ وغيرها لأننا صرخنا صرخنا ولم يستجب أحدٌ لأصواتنا، نحن متّكلون على أنفسنا وعلى الله، إذا حدث قصفٌ سنختبئ في بيوتنا، يكفينا الجيش اللبناني، «وما رح نبوّس إيدَين حدا».
إذاً هذه هي القاع، لا تخاف «داعش» ولا أمثاله، كلٌّ يحارب ويصمد ويقاوم فيها على طريقته، يحارب أهلها الإرهاب من خلال حبّهم للحياة، من خلال مهرجاناتهم، ولعب الأطفال على الطرقات، وبالرقص على أصوات المدافع، يحاربونه في كل قداس وكل ترتيلة يرنّمها أحدُهم، يحاربونه بكل سيارة تضع موسيقى عالية وتسير في الضيعة، وفي كل فتاة تخرج من منزلها غير آبهة ما إذا كانت يدُها ظاهرة أو عنقها غير مغطّى... يحاربه كل شاب توافرت له فرصة النزول الى بيروت إلّا أنه فضل البقاء في القرية رغم غياب المغريات... هكذا يحاربون «داعش» من خلال حبّهم لكل ما حرّمته هذه الدولة الإرهابية، تاركين الحربَ العسكرية لأربابها... فهنا في القاع، لا أحد يتعدّى على مهمة الجيش المقدّسة.