التلاقي حول تعريف الاستتباع الذي كان يمارسه النظام السوري على لبنان بالوصاية، هو الذي سمح للحراك الاستقلالي بأن يتمدد ويتشكل في وجه هذه «الوصاية». ينبغي الاعتراف في المقابل، بأنّه لم توجد كلمة ذهبية من العيار نفسه لتوصيف حالة الغلبة التي عمل «حزب الله» على توطيدها بألف وسيلة في أعقاب الجلاء السوري.
فالغلبة لوحدها لا تفي بالواجب كمفهوم، مثلما أن الاستتباع لوحده لا يسمح بالوقوف على العقدة السياسية التي يتضمنها. أمّن مفهوم «الوصاية السورية» هذه النقطة: لأنه في مقابلها، كان المطلوب التوكيد بأن البلد راشد، ويستطيع أن يكون وصيا على نفسه.
قبل انقضاء الوصاية وبعدها، والى اليوم، جرى الحديث تارة عن «دويلة حزب الله»، وطورا عن «دولته». في مرحلة الوصاية، كان يكتفي بالتمثيل البرلماني، لا الحكومي، للحزب، وبقي على مسافة نسبية من عمق «المحاصصة الوظيفية». فقيل يومها إنه ينمّي بالتوازي، دولة في المناطق التي له عليها سيطرة، والتي ينبثق من نسيجها الأهلي، كائنا ما كانت التغييرات الأيديولوجية التي صهرها بهذا النسيج. ثم انقضت الوصاية، ودخل أكثر في مؤسسات الدولة وأجهزتها، لكنه نمّى في الوقت نفسه منظومته السلاحية التعبوية التكافلية الموازية، بشكل غير مسبوق، ومهجوس أكثر من ذي قبل، بتأمين الربط بين مناطق نفوذه، الأمر الذي تطور بالضرورة تمددا لهذا النفوذ من جهة، بواسطة التشكيلات التابعة له في مختلف المناطق، أو بواسطة استعراض قوته الناري في بيروت، وفي الوقت نفسه، ومع استمرار نفوذ الحزب جنوب نهر الليطاني، إلا أن الوقائع الجديدة مع القرار 1701، «شربكت» خارطة هذا النفوذ. وفي المقابل، سمحت الحرب السورية بامتداده على مساحات ترابية واسعة في سوريا نفسها، الوصية السابقة على لبنان.
يصادر الحزب منذ سنوات طويلة قرار الحرب والسلم، يتحكم بالمرافق البرية والبحرية والجوية إلى حد كبير، وحين لا يستخدم سلاحه في الداخل فانه يذكر به. بالتوازي، يبدو «درويشا» في حصصه ضمن المؤسسات الدستورية. ملتزم بتفاهم مديد مع حركة «أمل» بالنسبة إلى البرلمان، غير مطالب بأي من «الوزارات السيادية» عند تشكيل الحكومات. في الوقت نفسه، لا يخفى على أحد أن مفتاح تسهيل أو إعاقة تشكيل أو فرط أي هيئة تتولى مؤسسة ما بيده. هل فقط لأنه مدجج بالأسلحة والآخرون عزّل؟ هذا تفسير اختزالي. أيضا لأنه «مدجج بالسياسة». هل الآخرون «عزّل من السياسة»؟ لا، لكنهم ليس بمستطاعهم مجاراته في إكمالها بالأمن، وليست عندهم السهولة نفسها في الأخذ والرد، وفي الظهور بمظهر «الدرويش محاصصتيا» مثله، ولا يتمتعون بانسيابية حال بين الزعيم والجهاز والقاعدة على غراره. وأكثر: يتعامل الحزب مع التناقضات بين الطوائف وداخل كل منها بفعالية تقترب من أن تكون فعالية كولونيالية.
هل يعني كل هذا أن سيطرة الحزب على البلد لا ترد ولا حدود لها؟ ليست هناك سيطرة لا حدود لها، وليست هناك مقاومة سيطرة يعوّل عليها من دون استشراف هذه الحدود. ليست هناك سيطرة بلا جغرافيا تنبسط فيها، وحين تنبسط السيطرة في الجغرافيا لا تكون هي نفسها في كل مكان. ثمة تفاوت في السيطرة، وفي أي سيطرة. في زمن الوصاية السورية مثلا، بقي الجيش السوري من دون تجاوز نهر الكلب إلى بلاد كسروان. لم تكن كسروان خارج معادلة الوصاية السورية، لكن وطأة هذه الوصاية اليومية كانت أقل من مناطق تستبد بها هذه الوصاية على نحو مباشر.
والحزب، مع أنه طرح نفسه منذ 8 آذار 2005 كوريث للوصاية، كوصي على بقية اللبنانيين، ثم كوصي حتى صعدة، ينظر في مرآتين: مرآة «الهيمنة» لطائفة على سائر البلاد، وهو ما اتهم به الموارنة، ومرآة «الوصاية» السورية. لكن، هل يجد الحزب نفسه في هاتين المرآتين الآن؟ هل يمكن القول، من الجهة الأولى، إنه نجح في الربط بين سيطرته وبين القطاعات النافذة في المال والاقتصاد، أو إنه أرسى نموذجا ثقافيا يمارس إغراءه على دائرة واسعة من غير المريدين أيضا؟ لا. الفارق عند غرامشي بين السيطرة وبين الهيمنة مفيد جدا في هذه الحالة. نحن أمام سيطرة متفاوتة بحسب المناطق، ومتفاوتة بحسب المؤسسات والمرافق، ومتوجة بتحكم واسع بتعبئة هذه المؤسسات وتفريغها، وإجازة أو تعطيل ما يوصف بأنه «عملها»، لكن لا نموذج لهيمنة شاملة، وإن كان المشروع بحد ذاته هيمنيا فئويا. أيضا التمييز عند الفيلسوفة حنة ارنت بين «حركة توتاليتارية» و«نظام توتاليتاري» أساسي.
لم يسقط البلد بعد ضحية لنظام توتاليتاري، وينبغي الاحتراس من هكذا بارانويا لا تخدم قضية تحسين شروط «التفاعل» مع «حزب الله»، ومنطلقات هذا التفاعل: التعايش الصعب، والذي لا مناص منه، والمواجهة الثقافية مع أيديولوجيته السياسية والمجتمعية، والتمسك القاطع بمبدأ احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي.
هل «حزب الله» وصاية جديدة؟ هذا ما عمل من أجله. لكن «هل توفي معه» بالنتيجة أن يكون وصاية جديدة، فيحل ويربط، ويحكم في مناطقه، ويكتفي بهذا؟ اذا فعل ذلك، يكون هذا الحزب «بوريتانيا» (طهوريا) ونكون «ظلمناه»!! ما قيمة وصايته إن لم تكن لتحويل سيطرته المتفاوتة وتحكميته المتعاظمة إلى هيمنة شاملة؟! فعلا، ماذا تكون وصايته في هكذا حالة؟ لكن الحزب ليس «بوريتانيا» تماما. إن لم يكن الحزب «رافعة» لقوة أهلية صاعدة جديدة في المجتمع والدولة، فان «وصايته الجديدة»، التي أنجزت سيطرة ولم تستكمل هيمنة، هي وصاية لن تتعرف على نفسها في مرآتي الهيمنة «المارونية السياسية» والوصاية السورية.
لن يبقى الحزب عند النقطة التي وصل إليها. سيحاول، بجدية، الهيمنة. ولأنه سيحاول، ينبغي أن يكون مفهوما أنه لم يصل إليها بعد. قد يفهم من الكلام إعفاءات من المسؤولية، وليس هذا القصد.