ما في الجرود والقاع ورأس بعلبك بقيَ في جانب، فيما مجلس الوزراء كان في جانب آخر، فجاءت جلسته في قصر بعبدا أمس باردة بعد تطوّرات ساخنة جداً، من معركة جرود عرسال إلى تصريحات الرئيس الاميركي دونالد ترامب وصولاً إلى اتفاقية التبادل بين «حزب الله» و«النصرة»، فهذه التطوّرات لم تدخل إلى قاعة المجلس. ولو لم يشعِل الملف الاقتصادي والمالي النقاشَ قليلاً لكانت الجلسة من اكثر الجلسات رتابةً وهدوءاً. وكما كشفَت «الجمهورية» أمس في تقاريرها عن أنّ الوضع الاقتصادي مقبل على كارثة، وأنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تحدّث بالأرقام أمام زوّاره لافتاً إلى أنّ الوضع الاقتصادي سيّئ إذا لم توضَع خطة اقتصادية مستعجلة، تسلّمَ الوزراء خلال الجلسة أمس تقريراً اقتصادياً يُبرز النقاط التي أثارَتها «الجمهورية»، ومفادُه أنّه «في حال لم نبادر إلى تصحيح الوضع فوراً، فقد يَغرق لبنان في دوّامةٍ تُهدّد الاستقرارَ العام».
أظهرَ التقرير الذي تسَلّمه الوزراء امس من رئيس الجمهورية انّ الوضع الاقتصادي سيّئ، وأنّ العجز في الميزان التجاري بلغ 19 مليار دولار، فيما العجز في الموازنة بلغ 8 مليارات دولار، والدَين العام سيصل الى 110 مليارات دولار إذا استمرّ الوضع على ما هو.

وكذلك فإنّ أكثر من 60 في المئة من الموازنة الحكومية (7.5 مليارات) يُخصّص لخدمة الدين. وأشار التقرير الى انخفاض التدفّقات والحوالات المالية بالدولار الى أقلّ من 4 مليارات دولار، وسط عدم القدرة على الاستفادة من سوق الدين، وانعدام الاستثمارات المنتجة، فيما النمو سلبي.

وعلمت «الجمهورية» انّ نقاشاً حادّاً حصَل بداية الجلسة بعد عرضِ عون للتصوّر المالي والاقتصادي، والذي يتضمّن ارقاماً وتوقّعات للسنوات الثلاثة المقبلة إذا لم يكن هناك معالجة، وهذه الارقام مبنية على دراسة اعدَّها صندوق النقد الدولي وساهمَ في جانب منها وزير الاقتصاد رائد خوري بناءً على نصائح ومعطيات من المصارف والهيئات الاقتصادية.

وقد اعترَض وزير المال علي حسن خليل بشراسة على هذه الدراسة التي لم يكن مطّلعاً عليها، ولاحظ انّها «تتضمّن كثيراً من المغالطات وأرقامُها غير دقيقة وفيها تناقض». وقدم خليل عرضاً مقابلاً بنبرة حادة تحدّثَ فيه عن الواقع المالي والنقدي من موقعه كوزير مال، وقدّمَ شرحاً مستفيضاً لم يلامس فيه حدَّ التشاؤم الذي عكسَه تقرير فريق رئيس الجمهورية. وسأل: «أريد أن اعرف من هو وزير المال في هذه الحكومة؟».

وأثناءَ مداخلة خليل خرج الوزير رائد خوري من الجلسة، في حين رأى بعض الوزراء انّه يقف وراء هذه الدراسة قبل ان ينتهي النقاش بتوضيح رئيس الجمهورية أنّ هذه الدراسة «هي توقّعات لسنة 2020 ليس اكثر». واشار الى «أنّ علينا كقوى سياسية داخل الحكومة أن نوحّد تصوّراتنا الاقتصادية والمالية».

وقالت مصادر وزارية إنّ بعض الوزراء تخوّفوا من ان تكون الصورة التشاؤمية للواقع المالي مقدّمةً للالتفاف على قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي أقرّه مجلس النوّاب أخيراً.

وقال خليل لـ«الجمهورية»: «يجب ان نصبَّ اهتمامنا راهناً على إقرار الموازنة، وهي ستُقرّ، وهذا التزام منّا عبّر عنه الرئيس برّي وشدّد عليه الرئيس الحريري في جلسة مجلس الوزراء امس نقلاً عن الرئيس بري».

وكشفَ خليل «انّ هذا الامر سيتمّ في اسرع وقت ممكن وحتى قبل مدة الشهر من استحقاق السلسلة». واشار الى «أنّ إقرار الموازنة سيترافق مع المباشرة جدّياً في اجتماعات متلاحقة للّجنة الاقتصادية لتحضير خطة نهوض اقتصادي حقيقي».

التبادل والجرود

من جهة ثانية إنتهت عملية القضاء على «جبهة النصرة» في جرود عرسال والحدود الشرقية المحاذية لسوريا، وأمكن للمراقبين تسجيل ملاحظات عدة حول ما رافقها، أبرزُها:

اولاً، انتهت المعركة العسكرية قبل ان تنتهي، بمعنى انّ القدرة على حسمها عسكرياً كانت متوافرة ولكن تمّ الانتقال الى المفاوضات التي اسفرَت عن تسليم 5 أسرى لـ«حزب الله» لدى «النصرة» وخروج مسلحي هذا التنظيم الارهابي والبيئة الحاضنة له الى إدلب.

واظهرت أعداد مسلحي «النصرة» انّ التنظيمات الارهابية لديها بيئة حاضنة في منطقة عرسال، خلافاً لما كان البعض ينفيه. والخطورة انه اذا كان لهذه التنظيمات بيئة حاضنة في عرسال فمعنى ذلك انه توجَد بيئات حاضنة أخرى داخل لبنان.

ثانياً، بمقدار ما كان دور الدولة اللبنانية جانبياً في المعركة العسكرية، كاد هذا الدور ان يكون جانبياً ايضا في التسوية لولا المهمّة التي أدّاها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم.

وهذه التسوية يُرجّح ان تكون النسخة الاولى لتسويات أخرى في حال حصَلت معركة الجيش ضد تنظيم «داعش» في جرود رأس بعلبك والقاع، علماً انّ حصول تسوية معه اصعب ممّا هي مع «النصرة» التي لديها «عرابين» اقليميين، الامر الذي تفتقر اليه «داعش».

ثالثاً، الفضيحة الكبرى هي في غياب الدولة اللبنانية المتعمَّد عن سابق تصوّر وتصميم، وقمّة الغياب كان في مجلس الوزراء الذي انشغلَ في جلسته امس بنقل القاضي شكري صادر من رئاسة مجلس شورى الدولة الى رئاسة غرفة في محكمة التمييز، على الرغم من أنّ ولايته لم تنتهِ بعد، عوض ان ينكبّ المجلس على مناقشة ملابسات معركة عرسال والأدوار التي جرت هناك وتلك التي لم تجرِ بعد.

وهذا الامر كان فاضحاً بحيث لم يتجرّأ أيّ وزير على إثارة ما جرى في منطقة الجرود ومَن خاضَ المعركة وأين كانت الدولة منها وما هو دورها، علماً انّ الامم المتحدة والمجتمع الدولي كانا ينتظران من مجلس الوزراء تفسيرات رسمية حول هذه االتطورات، وقد اثارَ هذا الامر استغرابَ المرجعيات الديبلوماسية في لبنان، أكانت عربية او دولية، ويمكن هذا ان يؤثّر في اتصالات لبنانية دولية ستحصل في الايام والاسابيع القليلة المقبلة.

والسؤال الآن: ماذا بعد رحيل «النصرة» من جرود عرسال والتسوية التي حصلت بينها وبين «حزب الله»؟

يقول خبراء إنّ تحضير المعارك يتمّ سرّاً في العادة، لكنّ الحاصل انّ الإعلام سبقَ الجيش الى معركته ضد «داعش» في منطقة رأس بعلبك، تخطيطاً وتكتيكاً واستراتيجية وتوزيعاً للادوار بشكل أفصَح عن جزء من الاستراتيجية العسكرية، وهو امر مُضرّ بأيّ عملية عسكرية لأنّها تسمح للعدو بأن يحتاط ويتحصّن، اللهمّ الّا اذا كانت هناك اتصالات تحتاج الى رفعِ سقف التهديد ضد تنظيم «داعش» لينسحب بلا معركة، لكن لا مؤشرات معيّنة حتى الآن الى هذا الامر.

وفي انتظار المعركة ضد «داعش»، اذا حصلت، يَرتسم السؤال: هل سيخوضها الجيش وحده؟ ام سيخوضها بالتنسيق مع «حزب الله» والجيش السوري النظامي، وهو امرٌ لا يلاقي تأييداً واسعاً، لا في لبنان ولا لدى اصدقائه في الخارج، لا سيّما لدى الذين يزوّدون الجيش المساعدات. كذلك، هناك إمكانية ان يحظى الجيش بتغطية جوّية من التحالف الدولي الذي هو جزء منه منذ تأسيسه في العام 2014؟

واشار هؤلاء الخبراء الى انّ القيادة العسكرية اعلنت مراراً أن لا تنسيق مع الجانب السوري ولا دخلَ للحزب في معركة جرود رأس بعلبك والقاع، والجيش هو من سيخوض المعركة المرتقبة، في حين انّ التنسيق مع النظام السوري يحتاج الى قرار من السلطة السياسية.

المشنوق

وفي هذا السياق، قال وزير الداخلية نهاد المشنوق في برنامج «كلام الناس» الذي يقدّمه الزميل مارسيل غانم عبر شاشة «إل. بي .سي» إنّ «الجيش اللبناني عنده ضابط اتّصال مع الجيش السوري، وهذا الامر موجود منذ زمن، وهذا ليس سرّاً، ولا شيء يمنع التدخّلَ السوري في المعركة المقبلة الى جانب الجيش، فالقواتُ الجوّية السورية ليست بحاجة إلى دعوتنا لقصفِ المسلحين على أراضيها». وأضاف: «لا يمكنني المباركة لانتصار «حزب الله» في عرسال بل أُبارك لأهالي الأسرى المحرّرين.

ولستُ مقتنعاً بالنصر الذي حصَل في عرسال ولفتَني شكر (الرئيس بشّار) الأسد وايران من بين المواقف التي صَدرت»، مؤكّداً أن «لا شرعية لسلاح «حزب الله» إلّا من خلال استراتيجية وطنية تضمّ هذا السلاح الى الدولة، وبناءً عليه يصبح موضع توافق بين اللبنانيين».

وعلمت «الجمهورية» انّ هناك اتصالات اميركية ـ روسية في شأن الوضع على الحدود اللبنانية لكي تضغط موسكو على حلفائها في سوريا وايران ليقبلَ النظام السوري و«حزب الله» بتغطية جوّية للتحالف الدولي لمعركة الجيش ضد «داعش»، وهذا ما يفسّر تأخّر بدءِ معركة القضاء على هذا التنظيم حتى الآن، ولكنّ موافقة دمشق و»الحزب» على هذه التغطية الجوّية لم تأتِ بعد.

وفي حين تحدّثت معلومات عن أنّ عناصر من القوات الخاصة الأميركية موجودة في لبنان لمساعدة الجيش اللبناني في عملياته ضد «داعش»، أكّد مصدر عسكري رفيع لـ«الجمهورية» أنّ «هذه المعلومات ليست دقيقة، وأنّ العناصر الأميركية الموجودة في لبنان هي فرَق تدريب ومتابعة للعتاد الأميركي وليست فرَقاً قتالية».

وفي هذا الإطار، لوحظ تأجيل الإطلالة الاعلامية للامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله التي كانت مقرّرة امس، الى مساء اليوم، وقد يكون هذا الإرجاء مرتبطاً بمجموعة تطورات، علماً انّ الحزب برَّر التأجيل بإفساح المجال للتغطية الإعلامية لعملية تحرير أسرى الحزب الخمسة لدى «النصرة» الذين وصَلوا ليل أمس الى الاراضي اللبنانية عبر معبر جوسة.

الجميّل

وسألَ رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل: «كيف ينعقد مجلس الوزراء للمرّة الاولى منذ اندلاع معارك عرسال والصفقة التي انتهت اليها، من دون ان تكون التطوّرات الامنية والعسكرية الحاصلة والتي يمكن ان تحصل في جرود رأس بعلبك والقاع على جدول اعماله أو حتى موضوع بحثٍ ونقاش من خارج جدول الأعمال؟».

وقال لـ«الجمهورية»: «إنّ مجلس الوزراء هو السلطة التنفيذية المنوط بها دستورياً رسمُ السياسات في كلّ المجالات، فكيف ينأى بنفسه ويستقيل من دوره في هذا الملف السيادي والمصيري؟».

واضاف: «المؤسف حقاً أن لا نجد بين اركان السلطة ولو وزيراً يكلّف نفسَه عناء طرحِ سؤال على رئيسَي الجمهورية والحكومة وعلى وزراء الداخلية والدفاع والعدل عن سبب تغييبِ مجلس الوزراء عن صلاحياته خلافاً للدستور».

وقال: «السلطة تعطي هذه الايام مفهوماً جديداً وخطيراً لفصلِ السلطات، يقوم على اساس انّ الصفقات والتعيينات هي من صلاحية الحكومة، امّا الدفاع عن لبنان وسيادته فلا علاقة للحكومة به».

وختمَ: «لسنا في وارد السكوت على طريقة تعاطي السلطة مع الملف السيادي. فالكتائب دفعَت في سبيله ستة آلاف شهيد بينهم رئيس للجمهورية هو بشير الجميّل ونائبان هما بيار الجميّل وأنطوان غانم. وهي لن تفرّط لا بدماء الشهداء ولا بتطلّعات الشعب اللبناني وحقوقه السيادية».

تعيينات

على صعيد آخر قرّر مجلس الوزراء خلال جلسته أمس تعيينَ القاضي هنري خوري رئيساً لمجلس شورى الدولة خلفاً للقاضي شكري صادر الذي نَقله الى غرفة شاغرة في محكمة التمييز.

وقد اثارَت هذه الخطوة استغرابَ بعض الوزراء، في مقدّمهم وزراء «المردة» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» الذين سألوا عن سبب نقلِ صادر من مركزه قبل انتهاء ولايته وتعيين بديل له للولاية نفسِها (19 شهرا). وفيما أكّد وزير العدل «أنّ هذه الخطوة ليست كيدية ولا اقتصاصاً».

قال الوزير يوسف فنيانوس: «الظاهر انّ من لا يمشي مع العهد بيطيّرو وبيقعدو ببيتو». وبدورِه الوزير مروان حمادة قال لـ«الجمهورية»: «مِن الواضح أنّ فريقاً يعيّن جماعتَه كلّها في السلطة، أمّا اعتراضُنا فجاء نتيجة التماسِنا ظلماً في القرار الذي اتُخِذ، فالقاضي صادر قاضٍ محترم ولا تبرير لِما حصَل».

أمّا صادر فأكّد لـ«الجمهورية» أنّ «السلطة السياسية فعلت ما يريحها، والآن حان دوري لأرى أين تكمن مصلحتي وما يريحني».
وردّت مصادر في «التيار الوطني الحر» على هذا الموضوع بالقول لـ«الجمهورية»: «ما هي إلّا البداية».

«القوات»

وكانت مصادر «القوات اللبنانية» قد أوضَحت لـ«الجمهورية» أنّ وزراءَها سجّلوا اعتراضَهم على آلية التعيينات التي تفتقد إلى المعايير القانونية المطلوبة، وأسفَهم لبعض التعيينات التي لم تراعِ فيها الأصولُ ولا التراتبية ولا الاختصاص، وتؤشّر إلى زبائنية وخلفيات سياسية».

النزوح

وفي موضوع النزوح السوري، علمت «الجمهورية» انّ الوزير جبران باسيل لفتَ خلال جلسة مجلس الوزراء الى «أنّ السياسة التي اتبِعت في الحكومة السابقة لا تؤدي الى عودة النازحين، خصوصاً أنّ لبنان غيرُ موقِّعٍ لإتفاقية جنيف للّجوء لأنّها تتعارض مع الدستور اللبناني الذي في مقدّمته يرفض التوطين، وبالتالي على الحكومة الحاليّة ان تتّخذ قرارَها بعودتهم بمعزل عن المجتمع الدولي، خصوصاً بعدما شهدنا عودةَ نحو 8 آلاف نازح مع المسلحين ومن عائلاتهم وهم من المعارضين للنظام السوري ومرّوا في المناطق الخاضعة للنظام، ما يَعني انّ بقيّة النازحين يمكنهم العودة الى المناطق الآمنة».