متابعةُ معركة جرود عرسال بكل تفاصيلها وصولاً الى مشهد الحافلات وهي تنقل إرهابيّي «النصرة» مع عائلاتهم الى إدلب، لم تقتصر على اللبنانيين، الذين تفاعلوا معها بين مؤيّد ومعارِض ومشكّك ومتسائل عن الخلفيات والأبعاد والتوقيت والأهداف المعلنة وغير المعلنة، وهو أمرٌ لم ينتهِ حتى الآن، وقد لا ينتهي أبداً ربطاً بالتركيبة السياسية المتناقضة في كل شيء حتى على الهواء الذي يتنشقونه. بل إنّ هناك فئةً تفاعلت بطريقة هادئة وبلا ضجيج علني، تمثّلت بالبعثات الديبلوماسية العاملة في لبنان، التي تحرّكت على وقع مستجدّات الجرود في كل الاتجاهات السياسية والرسمية، وحتى الحزبية، وما زالت على هذا المنوال للوقوف على صورة ما يجري.اللافت في حركة البعثات الديبلوماسية الغربية تحديداً، أنها في مجملها تنظر من حيث المبدأ، بإيجابية الى ضرب المجموعات الإرهابية بمعزل عن الذراع التي تولّت هذا الضرب، وهذا ما عكسته أمام المستويات السياسية والرسمية التي تواصلت معها، ويُقال إنّ هذا التواصل شمل «حزب الله» نفسه.
حديثُ تلك البعثات عن الإيجابية، يجعل المستمع اليها يلمس منها أنّ إنهاء هذا المستودع الإرهابي في الجرود، يزرع مزيداً من الطمأنينة في الداخل اللبناني من زوال الخطر الذي كان محدِقاً به، إلّا أنها رمت من فوق هذه الإيجابية سؤالاً شديد الوضوح عن «حزب الله» وموقعه ودوره على المستوى السياسي وغير السياسي في المرحلة المقبلة.
ومن دون أن يخفي الديبلوماسيون الأجانب تفهّمَهم الى حدّ بعيد، للأصوات التي ارتفعت من قبل بعض القوى السياسية في لبنان، وعبّرت عن خشيتها من تغييرٍ ما في الجغرافيا السياسية في لبنان بعد الجرود، ومن محاولة «حزب الله» استثمار ما يعتبره انتصاره، لفرض معادلات جديدة في الداخل اللبناني، وهو أمرٌ قد تكون له انعكاسات خطيرة، كما عبّرت في الوقت ذاته عن ريبتها من الاتفاق الذي تمّ بين «حزب الله» و«جبهة النصرة»: «هذا ما سمعناه صراحةً من بعض القيادات اللبنانية» يقول أحد السفراء.
الإجابات التي تلقّتها البعثات الديبلوماسية الغربية، جاءت مختصرة، ومعبّرة في آن معاً، فمن جهة كانت نافية لأيّ استثمارٍ داخلي لما جرى في الجرود لا على المستوى السياسي ولا على غير السياسي، وعلى ما ورد في كلام أحد المسؤولين أمام أحد السفراء «فإنّ «حزب الله» لم يقل إنه في هذا الوارد، فضلاً عن أنه في الأساس ليس في هذا الوارد على الاطلاق وستُثبت الأيام المقبلة صحّة ما أقول، كل الفرقاء يعرفون دقّة وحساسيّة التركيبة اللبنانية، و«حزب الله» في طليعة مَن يدركون ذلك، ولذلك لا أرى موجباً لأيّ حذَر أو خشية من هذا الأمر، وبالتالي ما صدر عن تلك الأصوات لا يعدو كونه من عدّة السجال والمناكفة السياسية مع الحزب لا أكثر ولا أقل».
أما في شأن الاتفاق الذي تمّ بموجبه ترحيل الإرهابيين بالباصات، فتضمّنت إجابة المسؤول المذكور توصيفاً لبعض السيناريوهات التي نُسِجت من قبل بعض الأطراف المعروفة بخصومتها الشديدة مع «حزب الله» وتحدّثت عمّا سمّتها «معركة هوليودية» أنتجت «تسوية تآمرية» بين «حزب الله» و«النصرة»، حيث وصفها المسؤول بـ«سيناريوهاتٍ خبيثةٍ تلامس الخيال، الهدف منها تشويه الإنجاز الذي تحقّق بهزيمة النصرة وترحيلها من جرود عرسال، وتكفي لتبيان حقيقة ما جرى، استعادة مشاهد الباصات في سوريا وهي تنقل المسلّحين، أو بالأحرى وهي تُجلي المسلّحين، من حلب والزبداني ومضايا وداريا والمعضمية وصولاً الى حي الوعر في حمص، والتي ارتبطت كلها بتسوياتٍ ميدانية فرضتها الانتصارات الميدانية التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه بمَن فيهم «حزب الله» على المجموعات الإرهابية في تلك المناطق، وبالامس تكرّر المشهد نفسه مع حافلات الجرود وترحيل إرهابيي النصرة».
تتقاطع توضيحات المسؤول المذكور للديبلوماسيين الأجانب، مع قراءة عسكرية لما جرى يستهلّها أحد الخبراء بقوله: أنا أتفق مع مَن يتساءل ماذا بعد عرسال، باعتبار هذا السؤال هو الأساس الذي سيتبدّى في المرحلة المقبلة، والخطأ الكبير هو أن يُربط هذا السؤال بلبنان، لأنّ المسألة أبعد منه.
يقول الخبير «بالتأكيد أنّ لما جرى في جرود عرسال وطرد الإرهابيين منها، مفاعيله اللبنانية بالدرجة الأولى على الصعيد الأمني وارتفاع مستوى الاطمئنان الداخلي، ولاسيما لناحية التخفّف من الثقل الذي كان تمثله هذه البؤرة من مصدر للتخريب وإعداد السيارات المفخّخة وما الى ذلك من أسباب تفجير وتوتير، هذه هي حدود المفاعيل في لبنان.
واما المفاعيل الأساسية لمعركة الجرود، يضيف الخبير المذكور، فيجب رصدها في مكان آخر. أي في إدلب تحديداً، وبالتالي إذا أردنا أن نعرف ما حصل في جرود عرسال يجب أن نترقب ماذا سيحصل في إدلب!
ويقول، كما هو واضح ومعلوم، باتت إدلب تشكّل الوجهة الأساسية لـ«تكديس» إرهابيّي «جبهة النصرة» التي باتت تسيطر على ما يزيد عن سبعين الى ثمانين في المئة من محافظة إدلب.
وثمّة مؤشرات تتتالى حول معركة كبرى يجرى التحضير لها هناك لاستهداف التكفيريين، ومنها:
- ما يمكن تلمّسه في الكثير من تصريحات ومواقف دول غربية وشرقية وإقليمية، والتي تشي بأنّ الوقت لن يتأخّر لكي يلقى المعقل الرئيسي لـ«جبهة النصرة» في إدلب، مصير الموصل.
- الموقف الروسي، الذي يبدو حاسماً في قرار الضرب النهائي للمجموعات الإرهابية، وإدلب هدف أساسي وقريب لموسكو.
- التحذير الشديد اللهجة الصادر من الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام قليلة، حيث حذّرت وزارة الخارجية الأميركية من «عواقب وخيمة» لفرض تنظيم «جبهة النصرة» سيطرته على محافظة إدلب.
وثمّة كلام أكثر وضوحاً وصرامةً جاء على لسان مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا مايكل راتني، الذي قال: «ينبغي على الجميع أن يدركوا بأنّ (قائد جبهة النصرة أبو محمد) الجولاني، وعصابته هم مَن يتحمّلون مسؤولية العواقب الوخيمة التي ستلحق بإدلب».
- تعمّد الحكومة التركية، التسريب عبر ماكينات إعلامية تابعة لها، لمعلومات تفيد بإلتحاق عناصر تنظيم «داعش» الهاربين، بصفوف «جبهة النصرة»، وإنّ خطوات عملية بدأت فعلاً لتشكيل حلف دولي بالتنسيق مع الروس لشنّ عملية ضد الإرهابيين في إدلب.
- النداء الذي وجّهه القيادي في فصيل «جيش الإسلام» محمد علوش الى «أهل إدلب» ودعاهم فيه الى «أن يعتبروا ممّا جرى في الموصل»، وحذّرهم من «أنّ قبولكم بسيطرة النصرة عليكم، فإنها ستخذلكم عند القتال وستكون أوّل الهاربين».
يقول الخبير إنّ المتغيّرات الميدانية المرتقبة في إدلب هي التي ينبغي التعمّق فيها لفهم الدوافع التكتيكية والاستراتيجية، التي شكّلت أساسَ قرار «حزب الله» والجيش السوري، بسلوك طريق التفاوض لانسحاب إرهابيّي النصرة من جرود عرسال، والذي أراه قراراً ذكياً لضرب عصفورَين بحجر واحد؛ تأمين الجبهة الجنوبية الغربية عبر تطهير السلسلة الشرقية لجبال لبنان من الخطر الإرهابي بأقل الخسائر الممكنة (وهو ما تحقّق في عرسال وسيُستكمل على الأرجح قريباً في جرود رأس بعلبك والقاع)، وفي الوقت ذاته، الاستمرار في عملية تكديس مجموعات التكفيريين على اختلاف مسمياتهم وجنسياتهم في رقعة جغرافية محدّدة، تمهيداً لجولة عسكرية حاسمة، تحوّل إدلب الى قبر واسع لدفن تلك المجموعات فيه. ولا أستبعد أن يمهّد الحسم في إدلب الطريق نحو تسوية سياسية شاملة... إما في جنيف أو في أستانا.