وأخيرا.. عرسال، الجرود والبلدة، محررة من ارهابيي النصرة بفضل تضحيات المقاومين. 
بعد سنوات من الاحتلال، (وفق توصيف وزير الداخلية نهاد المشنوق) عادت تلك المنطقة الحدودية الواقعة على خط الزلازل الاقليمية الى الحرية والوطن، ليكتمل بذلك انتصار المقاومة ويُتمم الثأر لشهداء الجيش وللشهداء المدنيين الذين سقطوا في عمليات ارهابية، خططت لها ونفذتها «النصرة».
ما حدث بالامس يرقى الى مستوى تصحيح الاخطاء والخطايا التي ارتكبت بحق الجغرافيا السياسية والحقائق التاريخية على الحدود بين لبنان وسوريا، منذ عام 2011، في اطار محاولة نسف خرائط المنطقة.
ومع انطلاق اولى الحافلات متوجهة الى العمق السوري، عاد ابو مالك التلي الى حجمه الطبيعي، بعدما حاول ان يستفيد من حالة انعدام الوزن التي مر فيها لبنان خلال السنوات الماضية كي يبني إمارة وزعامة.
هناك، في ادلب، حيث «المكب الرسمي» للارهابيين المهزومين، سيتحول التلي الى مجرد رقم وسط حشد امراء الحرب الذين يتصارعون على النفوذ والسلطة. وأغلب الظن ان كثيرين من رموز التكفيريين المنفيين الى ادلب لن يكونوا مسرورين لوجوده بينهم، وهم الذين بلغ التنافس بينهم حد الاقتتال، وبالتالي فانهم ليسوا بحاجة الى حمولة زائدة إضافية من وزن «الضيف المهزوم».
وبرغم محاولة ابو مالك التلي في «الوقت الضائع» تجميل صورة هزيمته واستنزاف انتصار حزب الله، عبر المماطلة في التفاوض وسعيه الى فرض شروط فجة لا تتناسب مع الواقع الميداني، إلا ان هذه المناورة الهشة سرعان ما سقطت تحت وطأة موازين القوى العسكرية والنتائج التي أفرزتها معركة تحرير الجرود، حيث لم يكن واردا السماح لأمير الارهابيين بان يعوض من خلال التفاوض ما خسره بالحرب. 
وقد أجاد الرئيس نبيه بري في رسم صورة كاريكاتورية لأوهام التلي، عندما قال امام زواره تعليقا على الشروط التي كانت قد وضعتها «النصرة» قبل ان ترضخ مجددا للسقف الذي وضعه حزب الله واللواء عباس ابراهيم: لم يكن ينقص سوى ان يطلب ارهابيو «النصرة» ان ينضم فضل شاكر اليهم حتى يحيي لهم حفلة وداعية..  
أيا يكن الامر، لم تطل كثيرا أحلام اليقظة لدى التلي الذي وجد نفسه في نهاية المطاف يستقل أحد الباصات ويغادر الى المنفى الاضطراري في ادلب، فيما كان مسلحوه يحرقون آخر مقراتهم في وادي حميد والملاهي في محيط عرسال، ليغدو الدفرسوار الفكري والعسكري الذي حاولوا إنشاءه في الاراضي اللبنانية مجرد رماد.
بهذا المعنى، لم تكن باصات الهجرة الى الشمال السوري مجرد وسيلة نقل، أقلت الارهابيين من مكان الى آخر، بل هي حملت معها بقايا مشروع تكفيري تدحرج من «التلة» الى الهاوية، بعدما حاول ان يتسرب الى الداخل اللبناني بأشكال مختلفة.
لقد اصبحت الباصات، ايا يكن لونها، رمزا لهزيمة التكفيريين وتقهقرهم. وما جرى بالامس لا يقاس بالمسافة الفاصلة بين عرسال وادلب وانما يقاس بالمساحة الاضافية التي خسرها المشروع الظلامي على الحدود اللبنانية- السورية، بكل ما كانت تمثله هذه القاعدة المتقدمة من نقطة ارتكاز له في ارهابه الموجه ضد الدولتين.
بعد معركة تحرير الجرود فقدت جبهة النصرة «رئتها اللبنانية»، واشتد عليها الخناق، في تتمة للمسار الانحداري الذي يسلكه ذئب.
كان مشهد ترحيل ارهابيي «النصرة» معبرا وبليغا. موكب الحافلات يغادر جرود عرسال الى ادلب عبر سهل الرهوة وجرود فليطة، محاطا بالاعلام اللبنانية ورايات حزب الله، بإشراف «الامن العام»، ومواكبة عناصر المقاومة الذين تولوا تنظيم سير الباصات وتأمين التغطية الامنية لها، التزاما بالضمانات الممنوحة، وهو سلوك ينطوي على جانب اخلاقي حقيقي، لا سيما ان المقاتلين الذين كانوا على بُعد أمتار من مسلحي «النصرة» أعطوا درسا في ضبط الاعصاب والانفعالات، برغم الاحتقان الكبير الناتج من المعركة وما تخللها وسبقها. 
لقد بدا انسحاب مقاتلي «النصرة» مذلا بكل المقاييس وأقرب الى خسارة أخرى في معركة اعلامية - دعائية، ربحتها المقاومة بالصوت والصورة. لم تنجح الوجوه الملثمة في التغطية على الهزيمة او تمويهها. ولم تتمكن ستائر النوافذ من التعمية على الانكسار او اخفائه. ازدحمت الباصات بالمسلحين والجرحى والنازحين المفترضين والخيم والفرش، في انعكاس لتشظي مشروع «النصرة» ودخوله في مرحلة العد التنازلي..
وقافلة الحافلات التي امتدت على مسافة طويلة قد تكون افضل رد على كل الاصوات التي ارتفعت للتشويش على انتصار المقاومة والتقليل من شأنه. 7777 شخصاً غادروا جرود عرسال، وهو رقم كبير يعكس من ناحية حجم الخطر الذي كان كامنا في الجرود وسعة البيئة الحاضنة لمسلحي النصرة في مخيمات النازحين، ويؤشر من ناحية أخرى الى ان عودة النازحين ممكنة وفق النموذج التطبيقي الذي جرى تطبيقه على الارض.
ومن العلامات الفارقة، ان اندحار «النصرة» في 2 آب 2017 يُصادف ذكرى هجوم ارهابييها على الجيش اللبناني في اليوم ذاته من العام 2014، كأن شهر آب ينتقم لكرامته التي ظلت مخطوفة في الجرود كل هذا الوقت، قبل ان تحررها المقاومة. 
ويبقى ان سيناريو انسحاب «النصرة» بات بتصرف «داعش» الذي عليه ان يتعظ من تجربة منافسه في الارهاب وان ينسحب طوعا من جرود القاع وراس بعـلبك على قاعدة: «ما متت ما شفت مين مات؟»، وإلا فان الجيش جاهز للمواجهة الفاصلة.
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 «جرود المفاوضات»


ويُسجل للمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم انه أدار معركة «جرود المفاوضات» ببراعة وتمكن من قضم شروط «النصرة» الواحد تلو الآخر بعد حرب نفسية محكمة قادته الى التهديد بخلط الاوراق وحتى تمزيقها، مستخدما تقنيات اللعب على حافة الهاوية، ومتنقلا بين عقارب الساعة التي كادت تلسع التلي في لحظة تهور، قبل ان يصحو من أوهامه ويخفض سقفه الى حد القبول بالافراج عن ثلاثة موقوفين من سجن رومية، أحدهم أنهى محكوميته، في مقابل الافراج عن أسرى حزب الله الثمانية.
وكان ابراهيم يتناغم في تكتيكاته التفاوضية مع حزب الله الذي كاد يقلب الطاولة على رأس التلي ومسلحيه ضمن الجيب الاخير الذي حوصر فيه، عندما ظن انه في موقع يسمح له بأن يطلب ترحيل متورطين أساسيين بالارهاب، من نزلاء سجن رومية والمتوارين في مخيم عين الحلوة. 
عندها، نقل ابراهيم الى التلي عبر الوسيط المعتمد ان قيادة المقاومة ستوقف المفاوضات وتستأنف العملية العسكرية ابتداء من منتصف ليل أمس الاول، إذا أصر على مطالبه واستمر في التنصل من الاتفاق الاصلي الذي تقرر بموجبه ان يغادر مع مسلحيه وعائلاتهم محيط عرسال في مقابل اطلاق سراح أسرى الحزب الثمانية واستعادة جثامين شهدائه، علما ان الحزب أبدى لاحقا مرونة اضافية حين وافق على الافراج عن ثلاثة موقوفين من سجن رومية، وهذا كان هو الحد الاقصى من البراغماتية، الذي يمكنه الوصول اليه.
وترافق تحذير المقاومة الصريح والنهائي للتلي مع مبادرتها الى تحريك آلياتها العسكرية في الخطوط المحاذية لوادي حميد والملاهي وإعادة تنشيط قواتها القتالية بعد اسبوع من الاسترخاء والجولات الاعلامية. والارجح، ان أمير «نصرة لبنان» كان يستطيع ان يلحظ شخصيا الاستنفار في صفوف عناصر حزب الله، وان يتأكد من جدية التهديد الموجه اليه.
وتفيد المعلومات ان الحزب كان بصدد الاعلان عن وقف التفاوض والغاء وقف اطلاق النار، ومن ثم المباشرة في تنفيذ هجوم حاسم على آخر جيوب «النصرة» وضرب مقراتها في  وادي حميد والملاهي، لو واصلت عنادها وتعنتها.
اما لماذا وافقت قيادة الحزب على مغادرة التلي الى سوريا، فإن المعلومات تفيد بأنها اعتبرت ان المقايضة على رحيله مع آلاف من «البيئة الحاضنة» في مقابل تحرير الاسرى والجثامين والجرود وعرسال، هي أفضل بكثير من قتله. 
ويُفترض ان يتم الافراج عن اسرى الحزب الخمسة الذين أسروا سابقا في حلب، مع وصول الباصات الى الداخل السوري.
 

 نصرالله: هذا سر النصر


وفي انتظار ما سيقوله الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه مساء اليوم، أكد نصرالله خلال لقائه مساعد رئيس مجلس الشورى الاسلامي عبد الامير لهيان ان سر النجاح في دحر الارهابيين في عرسال ولبنان يكمن في دور المقاومة والجيش والدعم من جميع فئات الشعب.
ووفق وكالة أنباء «فارس»، اشار نصرالله الى ان النجاحات الاخيرة التي تمثلت في تحرير الموصل وحلب واخيرا عرسال من براثن الارهابيين هي نتيجة لوحدة الصف الداخلي في هذه الدول، محذرا من مخططات التقسيم الخطرة في المنطقة.
 

 واقعية الحريري


في هذا الوقت، سعى الرئيس سعد الحريري الى ان يكون شريكا في انتاج «معادلة الانسحاب» من الجرود وحصاد مكاسبها من خلال تأكيده انه منح كل الغطاء السياسي للتفاوض الذي قاده اللواء ابراهيم وأفضى الى اتفاق على مغادرة مسلحي «النصرة»، وصولا الى تأكيده ان الدولة حررت ارض عرسال.
ولكن أكثر ما لفت الانتباه في كلام رئيس الحكومة بعد لقائه مع اللواء ابراهيم هو ان الحريري اعتبر ان حزب الله أنجز شيئا ما عبر العملية العسكرية التي نفذها، في اول اقرار منه بالانجاز الذي حققته المقاومة، ولو على طريقته.
ويؤشر موقف الحريري الى تمايز كبير عن موقف الرئيس السينورة وكتلة المستقبل التي كانت قد اصدرت الاسبوع الماضي، خلال وجود الحريري في واشنطن، بــيانا حادا ضد حزب الله والمعركة التي خاضها لتحــرير الجرود، ما يطرح مرة اخرى السؤال القديم - الجديد عما إذا كان هناك توزيع أدوار بين الحريري والسنيورة ام يوجد اختلاف حقيقي بينهما في مقاربة ملف العلاقة بالحزب.
وتشير مصادر بارزة في 8 آذار الى ان موقف الحريري جيد، ربطا بطبيعة تموضعه السياسي، معربة عن اعتقادها بأن رئيس الحكومة استطاع عبر ما أدلى به حماية جلسة مجلس الوزراء اليوم، والتخفيف من وطأة صمته امام هذيان ترامب، والانسجام مع شبه الاجماع الوطني حول عملية المقاومة من دون ان يتخلى عن ثوابته المعروفة.