هذا الكلام لأحدِ الديبلوماسيين الخبَراء في السياسة الأميركية، ويضيف: «ومثلما كان حال القرارات والتخبّط الذي واكبَها أو أعقَبها، ظهر هذا التخبّط مع ترامب نفسِه أمام رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، حينما أعلنَ بلسانه أنّ دعم الجيش اللبناني سيستمرّ كما كان، علماً أنّ هذا الكلام لا يتوافق مع بندِ التخفيض الذي يطال لبنان، والذي ما زال وارداً كما هو في الموازنة الأميركية المطروحة على الكونغرس، ولم يتغيّر أو يتعدّل فيه حرف واحد».
أكثر من ذلك، يقول الديبلوماسي المذكور «يَحضرني هنا الهجوم العنيف لترامب على «حزب الله» وقوله أمام الحريري «سأعلن عن قراري في ما خصّ العقوبات على «حزب الله» غداً»، ولكنْ مرَّ على هذا الكلام أسبوع، ولم يعلن ترامب شيئاً، لا في «يوم غد» الذي حدّده، ولا في بعدِه ولا في بعدِ بعده... لستُ هنا في معرض الحثّ على أن يعلنَ ترامب العقوبات على الحزب، بل لأتساءَل عمّا إذا كان الرئيس الأميركي جدّياً في ما قاله، سواء عن الجيش أو عن «حزب الله» أم أنّه يطلِق كلاماً فقط لمجرّد الكلام وكمن يعطي شيكاً بلا رصيد».
يضيف الديبلوماسي نفسُه: «وضعُ «حزب الله» مختلف عن وضعِ الجيش، والعقوبات على الحزب جزء من السياسة الاميركية التقليدية، وقد يعلن عن ذلك في أيّ وقت، ومعلوم أنّ سلّة عقوبات يَجري إعدادها في الكونغرس، وأمّا بالنسبة إلى الجيش اللبناني فتكفي الإضاءة على لمحةٍ تاريخية ليتبيّن بأنّ المساعدات العسكرية الاميركية له هي من ثوابت الإدارات الاميركية، سواء أكانت جمهورية أو ديموقراطية، صحيح انّها في فترات معيّنة كانت تتعرّض لبعض الاهتزاز، إلّا أنّها سرعان ما كانت تعود إلى ثباتها.
من هنا، يتابع الديبلوماسي: «ليس سرّاً أنّ الجيش يَحظى برعاية عسكرية أميركية تاريخية، و90 في المئة، إن لم يكن أكثر، مِن سلاحه هو سلاح أميركي، ناهيك عن التدريب وما إلى ذلك، والإدارات الأميركية على اختلافها وثقَت بالجيش وفَتحت مخازنَ السلاح له - ولو بحدود - لتمكينِه من أن يكون القوّةَ المسلّحة الوحيدة والأقوى في لبنان وهاجسُها الدائم «حزب الله»، وأضيفَ إليه عامل الإرهاب الذي بَرزت مجموعاته في لبنان.
حتى إنّ واشنطن لطالما حثّت دوَلاً صديقة للبنان على تقديم الدعم العسكري لجيشِه، مِثل الأردن ومصر والإمارات العربية المتّحدة، وفي زمن الهبة العسكرية السعودية للجيش (قيمتها يثلاثة مليارات دولار) قدّرت واشنطن هذه المبادرة عالياً، ومع إلغاء هذه الهبة عبّرَت عن خيبتها من إلغائها وصدرَ بيان رسميّ عن الخارجية الأميركية آنذاك، أشار إلى أنّ واشنطن أبلغَت الرياض مخاوفَها مِن قطعِ الهبة، وأكّدت أنّها ستستمر في دعم الجيش، حتى لا تترك لبنان ساحة لـ»حزب الله».
يستعرض الديبلوماسي الخبير في السياسة الأميركية محطّات وضَعت فيها واشنطن مساعداتها للجيش تحت المجهر؛ تجلّت إحداها بعد إسقاط حكومة سعد الحريري في كانون الثاني 2011، يومها اتّخذت الإدارة الأميركية قراراً بتجميد المساعدات التي كانت تقدّمها للجيش.
وبقيَ هذا القرار سرِّيًا إلى أن كشفَته صحيفة «وول ستريت جورنال» إذ إنّ واشنطن استاءَت من سقوط حكومةٍ حليفةٍ لها واعتبرَت الحكومة الجديدة (التي شكّلها نجيب ميقاتي) مواليةً لـ«حزب الله»؟
وتجلّت محطة ثانية في آب 2010 حين وقعَ اشتباك مباشر بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي في العديسة وأوقعَ قتلى وجرحى من الطرَفين، يومها تحرّكَ «مشرّعون» أميركيّون لإقرار قانون يَمنع توريد الأسلحة الأميركية إلى الجيش اللبناني، وكان لإسرائيل الدور الأساس في تحريك هؤلاء «المشرِّعين» لمنعِ السلاح عن الجيش خشيةً من استخدامه ضدّها، وخشيةً من سيطرة «حزب الله» على الدولة وانتقال هذه الأسلحة إلى يدَيه».
كلّ المحطات هزّت التسليحَ بعض الشيء ولكنّه كان لأجَلٍ مؤقّت، فسرعان ما كانت واشنطن تعود عن قرارها وتستأنف برنامج التسليح وعلى الوتيرة ذاتها.
على أنّ أهمّ ما يَلفت إليه الديبلوماسي المذكور هو أنّ فكرة وقفِ المساعدة العسكرية الأميركية للجيش ليست وليدةَ اليوم، بل هي فكرة أو توجُّه كشفَت عنه إسرائيل قبل تسعة أشهر في تقرير أعدّه «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» في تشرين الثاني 2016، انطلقَ في بدايته من العرض العسكري الذي قام به «حزب الله» في «القصير» وظهرَت فيه ملّالة أميركية الصنع من طراز «ام 113» ليخلصَ إلى ما حرفيتُه « أنّ معرفة إدارة ترامب أنّ المساعدات للجيش اللبناني تصل إلى «حزب الله»، يمكن أن تؤدّي إلى إعادة النظر في هذه المساعدات».
ما أنا مقتنعٌ به، يقول الديبلوماسي نفسُه، هو أنّ التسليح الاميركي للجيش اللبناني جزءٌ من السياسة الخارجية الاميركية، وحتى لو أدرِج تحت بندِ خفضِ النفقات في الموازنة الأميركية فإنّ مجموعة أسباب تجعله غيرَ قابل للتنفيذ، خصوصاً وأنّ الإدارة الأميركية تدرك أهمّية هذه الأسباب ومدى حساسيتها، وتوجبُ بالتالي استمرارَ التسليح للجيش، ومنها:
- أنّ الولايات المتحدة تثِق بالجيش. وقد ثبتَ لديها بناءً على التجربة معه، أنّه أفضلُ من استخدمَ السلاح الاميركي، والأحرص على هذا السلاح، من دولٍ أخرى صديقة لواشنطن تتسلّح أميركياً وتوصل هذا السلاح إلى مجموعات مسلّحة إرهابية وغير إرهابية.
- وقفُ تسليح الجيش معناه أنّ واشنطن تتخلّى عن لبنان. فيما غايتُها الأساس هي الحفاظُ على استقرار لبنان، وبالتالي التمسّكُ بثابتة أساسية وهي أن لا تقوم بأيّ عمل يمكن أن يؤدّي إلى زعزعة هذا الاستقرار، كما لن تقوم بأيّ عملٍ يمكن أن يتسبّب بإضعاف الجيش اللبناني، بل على العكس تريده جيشاً قوياً.
- حاجة الجيش الدائمة إلى السلاح والتدريب والتجهيز، ووقفُ التسليح لا معنى له سوى إضعاف الجيش وفي وقتٍ حسّاس يشنّ فيه حرباً أمنية وعسكرية ضد المجموعات الإرهابية، ومن شأن ذلك أن يبيحَ لبنان لخطرين؛ خطر الإرهاب، وخطر «حزب الله» بأن يسيطر على الدولة.
- حاجة لبنان إلى حماية حدوده مع سوريا من خطر المجموعات الإرهابية، ومع إسرائيل ربطاً بالقرار 1701.
- الخشية من أن يؤدّي وقفُ التسليح إلى فقدان لبنان لقدرته ليس فقط على مواجهة الإرهابيين في الداخل وعلى الحدود، بل فقدان قدرته على التحمّل في ظلّ استضافته لمليون ونصف مليون نازح سوري. وهذا أمرٌ يهدّد بانفجار في أيّ لحظة.
- وقفُ المساعدات أو خفضُها، يعطي لبنان الحقَّ في أن يحصلَ على السلاح للجيش من أيّ مصدر كان، حتى ممَّن تَعتبرهم واشنطن أعداءَها أو خصومَها أو في المحور المواجه لها.
يَلفت الديبلوماسي الخبير إلى أنّ أصواتاً ترتفع في الداخل اللبناني تُحذّر من هذه الخطوة وسلبياتها، وثمَّة مقالة معبّرة نشَرها رئيس مجموعة العمل من أجل لبنان (اميركان تاسك فورس فور ليبانون) ادوارد غابريل، أشار فيها إلى «أنّ إقدامَ الولايات المتحدة على تخفيف دعمِها للجيش اللبناني غيرُ مناسب حالياً، فلبنان في حاجة ماسّة لدعمٍ أميركي لسنوات، ليضَع مع الجيش الأميركي استراتيجيات تُمكّنهما من حماية لبنان من الإرهاب».
يَخلص الديبلوماسي إلى القول: «حتى ولو أقِرّت الموازنة الأميركية ببند الخفض إلّا أنّه في الشقّ المتعلق بالجيش قد توجَد له مسارب لإبقاء الدعم العسكري الأميركي مستمرّاً، إنْ من خلال واشنطن مباشرةً أو بصورة غير مباشرة وعبر دولٍ حليفة لها، إنّما برغبتِها وبدفعٍ منها.
هذا مع الإشارة إلى أنّ مسؤولاً أميركياً أبلغَ مسؤولين لبنانيين قبل فترةٍ قصيرة ما حرفيتُه: «إطمئنّوا، لا أعتقد أنّ شيئاً سيؤثّر على برنامج المساعدات الأميركية للجيش اللبناني، ذلك أنّ البروتوكول المعقود بينه وبين البنتاغون ليس خاضعاً لمفاعيل التخفيض، وبالتالي مستوى التعاون والمساعدة العسكرية للجيش سيبقى كما هو، بل سيزيد».