فيما يستعدّ حزب الله إلى طيّ صفحة جرود عرسال، يفكّر في ما هو أبعد. على مدى السنوات الماضية، كانت النظرة إلى التجييش السياسي والإعلامي والعسكري تجاه بلدة عرسال، يصبّ في خانة إخضاعها وتطويعها لأنها المنطقة الشاذّة الوحيدة على ما سيطر عليه حزب الله في المناطق المحاذية بين لبنان وسوريا على السلسلة الشرقية. منذ ما قبل سقوط القصير، كانت العين على عرسال، والسهام مصّوبة نحوها، فكانت الخلاصة في حينها أن حزب الله يريد رسم سوريا المفيدة، التي تقضي بتهجير سكان العديد من المدن والقرى، بهدف السيطرة الجغرافية والديمغرافية على هذه "السوريا". لكن، لا شك في أن متغيرات كثيرة حصلت.
منذ فترة ليست بالقصيرة، وحزب الله يدرس الخيارات الإستراتيجية والسياسية لما بعد الحرب السورية. وهذه الدراسات لا تزال تخضع لتغييرات وتعديلات، وفق ما تقتضيه الوقائع الميدانية والتطورات السياسية الدولية. لم تعد سوريا كما كانت، دخلت في العرقنة، عنفاً وفدرلة. وعلى الطريقة العراقية، يبدو أن حزب الله سيسير في المرحلة المقبلة وفق المعطيات المتوافرة حالياً.
كانت أولى الرسائل لدى تفكيك حزب الله مواقعه العسكرية في بعض النقاط على السلسلة الشرقية وتسليمها إلى الجيش اللبناني، ثاني الرسائل وأكثرها وضوحاً ستكون بعد إتمام صفقة جرود عرسال، لتبقى الأنظار شاخصة على ما بعد بعد هذه الصفقة. بعد الانتهاء من المرحلة الأولى بتبادل للجثث بين حزب الله وجبهة النصرة، ها هي المرحلة الثانية تنتهي، بعملية التبادل الكبير التي تقضي بانسحاب مقاتلي جبهة النصرة مع نحو تسعة آلاف مدني من مخيمات عرسال وجرودها، إلى إدلب في شمال سوريا، ليل الأحد الإثنين، وصل نحو 150 باصاً إلى بلدة فليطة القلمونية استعداداً لنقل المسلحين والمدنيين إلى إدلب، إذ سينتقل المسلحون والمدنيون من مخيمي وادي حميد والملاهي عبر الجرود إلى فليطة، ومنها إلى الأوتستراد الدولي في اتجاه حمص ومنها إلى إدلب.
فيما المرحلة الثالثة، ستخصص لمسلحي سرايا أهل الشام، والمدنيين الذين سيرافقونهم عبر فليطة أيضاً إلى مدينة الرحيبة في القلمون الشرقي. وعدد هؤلاء تخطّى الثلاثة آلاف. فيما تشير معلومات أخرى إلى أن الهمّ الأساسي بعد ذلك، سيتركز على نقل مزيد من اللاجئين السوريين من عرسال والبقاع كله، إلى الداخل السوري، على القاعدة التي اتبعت مع سرايا أهل الشام، ومن قبلها مع اللاجئين الذين غادروا عرسال إلى بلدة عسال الورد. ما يؤشر إلى أن ثمة قراراً كبيراً لدى الحزب بضرورة إعادة هؤلاء اللاجئين، ويرتبط ذلك بتفكيك بعض المواقع وتسليمها إلى الجيش. وفيما البعض يعتبر أن حزب الله يريد إعادة اللاجئين، لعودتهم إلى حضن النظام والتطبيع معه وفتح مسار التنسيق اللبناني السوري رسمياً وعلنياً، إلا أن لدى الحزب أهدافاً أكثر عمقاً من ذلك.
بما أن سوريا، مرّت في تحولات كبرى، خصوصاً بعد دخول عوامل دولية عديدة على مسرح معاركها، وبما أن عملية رسم مناطق النفوذ قائمة، وترسيم سوريا المفيدة، تغيّر عن الصيغة السابقة ببعض أشكاله ورمزياته، فإن هذه التطورات تفرض على الحزب مماشاتها. بالتالي، فإن السؤال الكبير الذي يُطرح اليوم عما بعد بعد عرسال. ويبدو أن جوابه سيكون مستشرفاً من بعض المسارات العراقية. بحيث لا يختلف ما يجري في سوريا اليوم عما جرى في العراق في مرحلة سابقة، كالخلاف السياسي بين طهران وواشنطن، والإلتقاء العسكري والميداني بينهما وعلى أهداف واحدة.
لن تختلف هذه التطورات، عما حصل في العراق، بعد المعارك ضد تنظيم داعش. هذه المعارك خاضها الحشد الشعبي، الذي حظي بحملة تعويم وتمجيد إعلامية وسياسية، كما حصل على دعم أميركي في معاركه ضد التنظيم. وهنا، لا يخفى الخلاف السياسي والإستراتيجي بين حزب الله وواشنطن، في مقابل تلاقٍ في المصالح التي عرف الحزب كيف يستثمرها لتحقيق ما يريد من خلال مواجهة الإرهاب.
المدى السياسي الأبعد لذلك، هو ما سيفعله حزب الله في المرحلة التالية. وبخلاف ما يعتقده البعض أن الحزب سيستخدم إنتصاره بطرح المثالثة في النظام اللبناني، فهو يسعى إلى ثابتة أساسية وهي الاحتفاظ بالسلاح، والاعتراف بضرورة وجوده لمحاربة الإرهاب وإسرائيل، باعتراف خصومه. وهذا ما حصل من خلال التأييد الذي عرف الحزب كيف يكسبه في معركته الأخيرة.
بعد جرود عرسال، فإن الجهود ستتركز على كيفية استنساخ حزب الله تجربة الحشد الشعبي، على قاعدة أنه يخوض المعارك ويحرّر المناطق، ثم يسلّمها للجيش اللبناني. هي المرحلة التي سيبدأ فيها المسار التكاملي بين حزب الله والجيش. وهذا لا ينفصل عن نقاش بدأ يجري التداول به في الكواليس، من خصوم لحزب الله، وسفراء كذلك، على قاعدة إستحالة البحث بسلاح الحزب أو سحبه منه. لذلك، لا بد من إيجاد إطار تكاملي بينهما، ليصبح سلاح الحزب جزءاً من المنظومة الشرعية. أما عن التحولات السياسية الأخرى، أو المكاسب التي يريد الحزب كسبها في لبنان، فتلك مؤجّلة إلى ما بعد العودة من سوريا.