أيام قليلة، وينطلق الجيش اللبناني بعملية تحرير جرود رأس بعلبك وبلدة القاع التي يحتلّها تنظيم «داعش» على السلسلة الشرقية بين لبنان وسوريا، في استكمالٍ لما قامت به المقاومة خلال الأيام العشرة الأخيرة عبر العملية العسكرية الخاطفة التي أدت إلى استسلام «جبهة النصرة» في جرود عرسال، وبدء تنفيذ تسوية خروج مسلّحيها إلى إدلب.
خلال الأيام الماضية، بدا واضحاً وجود قرار سياسي وتشجيعٍ من رئيس الجمهورية ميشال عون لتنفيذ الجيش عملية حاسمة ضد إرهابيي «داعش» في السلسلة الشرقية. وهذا الغطاء السياسي الداخلي يتبعه غطاء دولي من كلا المحورين المتصارعين في المنطقة، في إطار «مكافحة الإرهاب» والمساهمة في القضاء على التنظيم الإرهابي. أما في الميدان، فقد قام الجيش خلال الأيام الماضية بجهدٍ حثيث في التحضير لشنّ العملية العسكرية، وإنهاء «كابوس» إرهابيي «داعش» وتهديدهم للأمن اللبناني والسوري بالسيارات المفخخة والانتحاريين، انطلاقاً من البقعة التي يحتلونها في السلسلة الشرقية. ويمكن القول إن تحضيرات الميدان شارفت على النهاية، من إعداد القوات البرية اللازمة إلى أسلحة المدفعية وراجمات الصواريخ، فضلاً عن عمليات الاستطلاع الجوّي والبرّي، بالإضافة إلى الخطط الحربية التي من المؤكّد أن سلاح الطيران سيؤدّي دوراً مهمّاً فيها.
وفيما تتكتّم المصادر العسكرية عن الموعد المحدّد لبدء العملية، مع تأكيدها أن انطلاقها لن يكون بعيداً عن موعد الاحتفال بعيد الجيش، إلّا أن كل المؤشرات تدلّ على اقترابها مع إكمال الجيش تحضيراته للقضاء على حوالى 700 إرهابي من «داعش»، بحسب تقديرات المؤسسة العسكرية. وبحسب عمليات الاستطلاع، يسيطر «داعش» على مساحة تقدّر بحوالى 200 كلم مربّع من الأراضي اللبنانية والسورية، في جغرافيا صعبة للغاية تتميّز بالمغاور والتلال العالية والأودية. ويسيطر التنظيم على حوالى 32 موقعاً مشرفاً في الجرود، غالبيتها محصّنة تحصيناً ممتازاً، إمّا طبيعيّاً أو جراء التحضير الذي اعتمده التنظيم لسنوات، في انتظار هكذا نوعٍ من المعارك. وفيما يقلّل كثيرون من شأن العملية في محاولة لكسر معنويات الجيش، إلّا أن المعركة لن تكون سهلة، وخصوصاً أن أي وساطة غير موجودة اليوم مع «الدواعش»، الذين يدركون أن الخيارين الوحيدين المتاحين هما إما الموت أو الاستسلام للجيش اللبناني أو السوري أو حزب الله. ومن هذا المنطلق، لا تضع المصادر العسكرية أفقاً زمنياً معيّناً للعملية، إذ إن الجغرافيا معقّدة وهناك مسلكان بريّان فقط تجاهها، وعناصر «داعش» خبروا المغاور وتضاريس المنطقة على مدى السنوات الماضية، ما قد يحتّم على الجيش القيام بعمليات إنزال جويّة «خلف خطوط العدو». وبحسب المعلومات، فإن عملية «الإطباق» التي نفذت الأسبوع الماضي ضدّ مسلحي «النصرة»، حيث انقضّ رجال الجيش السوري والمقاومة على «النصرة» من الشرق والجنوب، وقام الجيش اللبناني بتشكيل درع لعرسال من الغرب، سيعاد تنفيذها في المعركة ضد «الدواعش». لن يكون الجيش اللبناني وحيداً في المعركة. فالمساحة التي يحتلها تنظيم «داعش» متوزعة على جانبي الحدود (نحو 60 في المئة داخل الأراضي السورية، ونحو 40 في المئة داخل الأراضي اللبنانية). وفتح جهة ضد الإرهابيين من قبل الجيش السوري وحزب الله داخل الأراضي السورية (من الشرق والشمال)، في الوقت الذي ينقضّ فيه الجيش اللبناني على الإرهابيين من الجهة الغربية، سيشتت مسلّحي التنظيم، ويخفف العبء عن الأطراف الثلاثة (الجيشان السوري واللبناني وحزب الله). وانخراط السوريين والمقاومة في المعركة، يبدو أمراً «إلزامياً». فتقدُّم الجيش اللبناني في الجرود سيدفع «داعش» إلى التراجع شرقاً، باتجاه مناطق سيطرة الجيش السوري الذي لن يقف مكتوف الأيدي.
وأمس، تُوّجت العملية العسكرية الخاطفة التي قادتها المقاومة لتحرير جرود عرسال من عصابات «جبهة النصرة» خلال الأيام الماضية، بتنفيذ المرحلة الأولى من تسوية خروج إرهابيي «الجبهة» إلى إدلب وتسلّم حزب الله جثامين خمسة من شهدائه. يومٌ طويلٌ بين جرود عرسال ومقرّ اللواء التاسع في الجيش اللبناني في اللبوة، انتهى على «خير» بتحقيق الأهداف المرسومة له من قبل المقاومة ورعاية جهاز الأمن العام، على رغم بعض الصعوبات اللوجستية، أبرزها البحث عن 3 جثامين لشهداء من حزب الله دفنتهم «النصرة» سابقاً في الجرود التي باتت اليوم تحت سيطرة المقاومة.
في تفاصيل العملية التي رعاها الأمن العام اللبناني، تسلّمت «النصرة» تسعة من جثامين مسلّحيها، كان حزب الله يحتفظ بها، بالإضافة إلى المدعوّة ميادة عيوش وابنها، وهي موقوفة في سجن رومية لدورها في نقل أموال لـ«النصرة» وعلى الأرجح زوجة أحد مسؤولي «الجبهة»، ولم يصدر بحقّها أي حكم قضائي في لبنان بعد. في المقابل، تسلّم حزب الله جثامين خمسة من شهدائه، اثنان منهم سقطا في المعارك الأخيرة، هما: أحمد الحاج حسن وقاسم عجمي، وثلاثة جثامين لشهداء دفنت «النصرة» اثنين منهم في جرود عرسال، وجثمان ثالث لشهيد تحتفظ به جماعة مقرّبة من «سرايا أهل الشام». وفيما كان من المفترض أن تنتهي عملية التبادل باكراً، تأخر تحضير «النصرة» لجثامين الشهداء الذين دفنوا في مناطق كانت تسيطر عليها «النصرة» وخسرتها أخيراً، ما اضطر الأمن العام إلى نقل وسيط/ دليل إلى الجرود لمساعدة المقاومة على اكتشاف مكان دفن الجثمانين في منطقة وادي الخيل، ولاحقاً انتظار فحوصات الحمض النووي للتعرف إليهما، قبل استكمال عملية التسليم. أما الجثمان الثالث، فجرى العثور عليه حوالى الساعة السادسة مساءً، وبعد التأكد من «الحمض النووي»، سلكت جثث «النصرة» طريقاً فرعياً إلى مدخل عرسال، ثم إلى وادي حميد.
ومع انتهاء المرحلة الأولى من العملية، من المتوقع أن تبدأ اليوم المرحلة الثانية لتسلّم المقاومة 8 من أسراها لدى «النصرة»، خمسة منهم أسروا في ريف حلب الشمالي، وثلاثة ضلّوا طريقهم خلال المعارك الأخيرة، في مقابل نقل حوالى 9000 مقيم في المخيّمات في عرسال، من ضمنهم مئات مسلحي «النصرة» إلى الداخل السوري، وصولاً إلى إدلب. وبحسب المعلومات، فإن عدداً كبيراً من الباصات بدأت تتجمّع منذ بعد ظهر أمس في منطقة فليطا من الناحية السورية، على أن تقوم بنقل الراغبين بالخروج من عرسال مع مسلحي النصرة إلى إدلب عبر بلدة فليطا. واعتماد فليطا اختير من ثلاثة احتمالات، أوّلاً لنقل الراغبين بالخروج عبر المصنع، ثمّ من دمشق إلى إدلب، أو عبر القصير ــ حمص، ثم حماه وإدلب، إلّا أن العدد الكبير للباصات وصعوبة حماية القافلة ورفض السلطات اللبنانية عبور مسلّحي «النصرة» بأسلحتهم الفردية داخل الأراضي اللبنانية، حتّم اختيار فليطا، مع إصرار المدعو أبو مالك التلي «أمير النصرة» في الجرود على احتفاظه ومقاتليه بسلاحهم الفردي، ومطالبته بباصات محجوبة الرؤية. كذلك فإن مسلحي «سرايا أهل الشام» سينتقل جزءٌ منهم إلى القلمون وآخرون إلى منطقة الرحيبة، إلّا أن الأولوية الآن بالنسبة إلى المفاوضين هي إخراج «النصرة» أولاً.
وعلى طريق إدلب في ريف حماه الشمالي قرب بلدة سلحب، سيقوم الجيش السوري بتفتيش الخارجين وتسجيل أسمائهم في لوائح اسمية، كجزء من التسوية التي وافقت عليها السلطات السورية، قبل انتقالهم إلى إدلب.