هي الزيارة الثانية إلى السعودية لزعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر بعد زيارة العام 2006، وقد أخذت زيارة الأمس مساحة واسعة من الجدل بين أنصار محوري إيران والسعودية في المنطقة.
هذه الزيارة تشكل عنوانا كبيرا لمرحلة جديدة بدأتها السعودية منذ تولي الملك سلمان سدة الحكم وهيمنة نجله محمد على مقادير السلطة داخل المملكة وهي مرحلة إبتعدت فيها المملكة عن الأداء التقليدي البطيء في التعاطي وعن العقلية المتحجرة ( أبيض - أسود ) في التعامل مع أي قضية في الشرق الأوسط.
وتأتي زيارة مقتدى الصدر اليوم إلى جدة ولقائه ولي العهد محمد بن سلمان ضمن هذا السياق بشكل عام.
إقرأ أيضا : مقتدى الصدر في السعودية... هل سيرجمه محور المقاومة والممانعة ؟
مقتدى الصدر والإبتعاد عن إيران:
لكن الأمور لم تتغير فقط عند الضفة السعودية بل أيضا طرأ تغييرا جوهريا في سياسة مقتدى الصدر ورؤيته للدور الإيراني.
صحيح أن الرجل لم يكن إيرانيا بالمعنى " التبعي " للكلمة لكنه كان يصنف من ضمن المحور الممتد من طهران إلى بيروت خصوصا في فترة الإحتلال الأميركي للعراق والمجهود الحربي الذي قامت به مجموعة " جيش المهدي " ضد الأميركيين.
مع هذا كان الرجل في مراحل مختلفة تصدر عنه مواقف غير تقليدية ومزعجة للإيرانيين بالأخص بعد أن تحول نوري المالكي إلى رقم إيران الصعب في العراق والإشتباكات النارية التي حصلت بين قوات جيش المهدي والجيش العراقي الموالي للمالكي حينها والتي تم بموجبه تسليم سلاح ميليشات الصدر.
وعند هذه النقطة بالذات تغير الرجل ونقم على الإيرانيين قبل المالكي وتبنى خطابا وطنيا بعد أن كانت ميليشياته متهمة بإرتكاب أعمال وجرائم طائفية في الحرب الأهلية العراقية.
إقرأ أيضا : مقتدى الصدر : على إيران ترك المهاترات السياسية والطائفية
بدأ الصدر مرحلة التقارب مع العرب السنة وهو يعتبر اليوم من أقوى المكونات الشيعية في الحياة السياسية العراقية ومعروف عنه كرهه للبعث بشقيه السوري والعراقي.
وإنتقد في محطات كثيرة السياسة الإيرانية في المنطقة وطالب برحيل بشار الأسد وعدم تدخل الحشد الشعبي في الحرب السورية لكنه في الوقت نفسه كان على علاقة طيبة مع السيد حسن نصر الله وزار الرئيس نبيه بري في الآونة الأخيرة ودرس في طهران، وهذه من التناقضات التي ترسم ملامح شخصيته ومشروعه وتطرح علامات إستفهام وتشكل إشكالية أساسية للمحللين.
مع هذا يرغب مقتدى الصدر دائما في إظهار نفسه على أنه الرجل الوطني الذي يهدف إلى تحقيق وحماية الوحدة الوطنية العراقية ويرفض أي تدخل خارجي في الشؤون العراقية وكان أنصاره منذ عام تقريبا قد قاموا بمظاهرات في المحافظات الجنوبية العراقية ومزقوا صور القائد الإيراني قاسم سليماني ورددوا هتافات " يا قاسم سليماني... أنا الصدر رباني " كإشارة واضحة لرفض التيار الصدري لتدخلات إيران عبر الحشد أو باقي الوزارات والأجهزة في الشؤون العراقية.
وقبل صعود نجم داعش شارك الصدر في مظاهرات أهل الأنبار المنددة حينها بسياسات نوري المالكي الطائفية وبعد قيام الخلافة الإسلامية في الموصل دعا إلى حماية السنة في العراق والإبتعاد عن اللغة الطائفية وأسس " سرايا السلام".
إقرأ أيضا : محمد بن سلمان يلتقي مقتدى الصدر في جدة
إذا عدة محطات تاريخية مر بها مقتدى الصدر والسمة الأبرز في تاريخه أنه رجل متناقض أو بالحد الأدنى رجل لا يعرف كيف يشرح مشروعه بوضوح كافي ما يخلق هذه الشبهات عند المراقبين، لكن لا يمكن فهم مقتدى الصدر دون الرجوع إلى تاريخ النزاعات بين العائلات الدينية الشيعية في النجف وكربلاء وقم أيضا.
فآل الصدر معروف عنهم صفة الإعتدال في الخطاب وحب الوطنية والإنفتاح على العرب وتبني شعارات العروبة ، بدءا من موسى الصدر ومحمد باقر الصدر وصولا إلى مقتدى الصدر اليوم، ولطالما كانوا منفتحين على هموم العرب ويهتمون بنسج علاقات وثيقة مع الدول العربية ولو أن محمد باقر الصدر كان يميل أكثر للمشروع الإسلامي المتكامل لكنه لم يكن يرغب في تشكيل مشروع طائفي أو مذهبي مناهض للعروبة والدول العربية.
أضف إلى ما تقدم فإن الشيعة في العراق إستطاعوا تسلم زمام الأمور هناك بعد التدخل الأميركي والإتفاقات الإيرانية - الأميركية المشتركة حول الموضوع والذي يبرز بوضوح مثلا لا حصرا عند تعيين رئيس للوزراء والذي دائما ما يكون برضى إيراني وأميركي وبقبول من المرجعية الشيعية في النجف المتمثلة بآية الله السيستاني وهذا ما جعل مقتدى الصدر يصطدم بالمرجعية في أكثر من مناسبة كما حصل في أحداث النجف الشهيرة.
أما إيران فكانت تجيد اللعب على المتناقضات فإستثمرت في مشروع الصدر المقاوم للإحتلال الأميركي وكسبت ذلك في مفاوضات لاحقة عند الخروج الأميركي من العراق والذي مهدت له الإشتباكات بين الصدر والمالكي، وذلك الصدام الذي جعل الصدر يشعر بالغدر من الإيرانيين وينقم من حينها.
الصدر في السعودية :
إنطلاقا مما تقدم، يشعر مقتدى الصدر بضيق الأفق داخل العراق بعد بروز ظاهرة الحشد الشعبي والسيطرة الإيرانية وأدرك أن الإيرانيين باتوا يتحكمون باللعبة ويوجد بدائل عنه عندهم كالمهندس والمالكي وغيرهم، فقرر الذهاب بعيدا.
ضمن هذا السرد تأتي زيارة مقتدى الصدر إلى السعودية التي تعتبرها إيران في هذه اللحظة الزمنية عدوة لها ولمصالحها، ولأهمية اللحظة والتوقيت دلالات كثيرة.
فالشيعة الذين يوالون إيران يعتبرون السعودية العدو الأبرز لهم أكثر حتى من إسرائيل وأن يزورها الصدر لهو إستفزاز كبير.
وما يريد الصدر أن يقوله للسعوديين أولا أن هناك طرف شيعي وازن في العراق لا يعاديكم في لحظة الهيجان المذهبي في المنطقة ومستعد أن يتحالف معكم، وما يريد الصدر قوله للإيرانيين أنه رقم من الصعب تجاوزه ومستعد أن يذهب بعيدا ويمتلك حرية قراره ومشروعه الخاص ويرفض أن تعامله إيران كما تعامل باقي القوى العراقية وعليها أن تتأقلم مع الظرف الجديد.
إقرأ أيضا : هذا ما قاله الخامنئي عن العراق وأغضب أنصار مقتدى الصدر
من هنا لم يعد مستغربا زيارة الصدر إلى السعودية وقبلها زيارته لنبيه بري وهو شخصية شيعية ليست على خصومة مع السعودية أيضا وقبل هذا وذاك زيارة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى الرياض.
فماذا يحصل في أوساط شيعة العراق؟
قد تكون الصورة لا زالت غير واضحة كفاية للإستنتاج لكن إشارات معينة تظهر أن هناك حراك شيعي عراقي ما تحت شعار " الوطنية العراقية " بدأ يتحرك ضد إيران.
أولى هذه الإشارات كانت زيارة العبادي وثانيها زيارة الصدر وقد لا يكون آخرها إنشقاق عمار الحكيم عن المجلس الأعلى الإسلامي الذي أنشأته طهران وتشكيله لكيان سياسي جديد تحت مسمى " بيت الحكمة ".