قبل ايام اطلق جنبلاط تغريدة قال فيها: «في انتظار أن يستكمل الجيش عملية جرود عرسال، التحية لشهداء «حزب الله» الذين سقطوا اثناء المرحلة الاولى من المهمة».
والملاحظ في هذه التغريدة تزامنها مع كلام منسوب لجنبلاط مفاده «أن إبعاد «داعش» و»النصرة» ليس امراً جديداً في قاموس «حزب الله»، بل هو في خطته وأجندته الدائمة، مع التأكيد على أنّ استبعاد «النصرة» و»داعش» من الجرود سواءٌ في عرسال أو راس بعلبك، يشكل أمراً أساسياً وضرورياً لحماية القرى اللبنانية، أو حماية مخيمات النازحين السوريين».
ومن البديهي هنا افتراض أنّ تعدّدَ المقاربات لتغريدة سياسية يُفترض أنها عادية، واختلافها لا بل تناقضها، قد يثير استغرابَ جنبلاط، وربما أكثر من استغراب، خصوصاً أنّ تلك المقاربات انطلقت كلها تقريباً من افتراض أنّ المعنى الحقيقي لها هو في قلب الشاعر الجنبلاطي. وكأنّ ما قاله الزعيم الاشتراكي مشفَّرٌ ومن النوع الذي يتطلّب جهداً كبيراً و»حكّ دماغ» لفكّ ألغازه ورموزه.
وتبعاً لذلك، يبدو أنّ جنبلاط أغاظ في تغريدته مَن يقفون في جبهة الاعتراض على ما قام به «حزب الله» في جرود عرسال، ومن هنا انطوى كلامُهم على حدّة، واتهامٍ وبعضٍ من انفعال، وهذه عيّنة ممّا قيل:
- «موقف جنبلاط الجديد من «حزب الله» في عرسال، الذي نرى أن لا موجب أو مبرّر له، هو موقف متسرّع وغير مدروس، وشبيه بذاك الموقف الذي أطلقه في حرب تموز 2006 حينما أعلن في الأيام الأولى للمعركة بأنّ الحزب انتصر ولمَن سيهدي النصر».
- «تحيّته لمَن سمّاهم شهداء «حزب الله» في عرسال، مستفزّة لشريحة واسعة من اللبنانيين والسوريين في آن معاً، وهي لا تنطوي فقط على محاولة غير مبرَّرة لاسترضاء الحزب، بل على الاعتراف بشرعيّة ما قام به هذا الحزب في تلك المنطقة وفي كل المناطق وفي خروجه على الإجماع الوطني وتفرّده بالمشاركة في الحرب السورية، وكذلك الاعتراف بسلاح الحزب غير الشرعي الذي يشكل الخطر الأكبر على لبنان واللبنانيين، بالخلاصة موقف صيغ لخدمة «حزب الله» فقط.
- « تحية جنبلاط لـ«حزب الله»، هي محاولة واضحة للهروب الى الامام، وعزّزت مخاوفنا من محاولة الحزب، التي نحن متأكدون منها، لتثمير ما قام به في جرود عرسال في الداخل اللبناني لناحية فرض واقع جديد، يتحكّم فيه وما نخشاه أن يكون جنبلاط يحاول أن يحجزَ له مكاناً مسبقاً في هذا الواقع الجديد.
- «موقف جنبلاط هذا، مستفزّ لشريحة واسعة من اللبنانيين، وبالتأكيد أنّ مفاعيل سلبية ستستتبعه، مع الاشارة هنا الى أنّ التعارض الجذري بين موقف جنبلاط هذا وموقف تيار المستقبل، لا يساعد في تمتين شعرة التواصل بين الزعيم الاشتراكي والرئيس سعد الحريري، أو ربما يؤثر عليها سلباً خصوصاً أنّ محاولة لحمها التي بدأت قبل سفر الحريري الى واشنطن لم تكتمل بعد.
وأما في المقابل، فيتبدّى مشهد آخر؛ «حزب الله» المعني المباشر بالتغريدة، قاربها إيجاباً بشكل عام «نحن نفهم تماماً معناها ومغزاها وما ترمي اليه» على حدّ تعبير أحد المسؤولين الحزبيين.
وأما أحد السياسيين الوسطيين، فيقارب موقف جنبلاط بقوله: «يبدو أنّ أنتيناته ولواقطه الهوائية قد التقطت تحوّلاً ما يحصل في المنطقة، ولذلك قال ما قاله، وأنا أتوقف بشكل أساسي هنا عند زيارته الاخيرة الى موسكو، وبالتالي لا أستبعد أن تكون تغريدته هذه مقدِّمةً لتغريدات مماثلة من ذات العيار وربما أكبر وأوسع في القابل من الأيام».
وبحسب قراءة هذا السياسي، فإنّ جنبلاط قدّم موقفاً سياسياً ذا طبيعة مزدوجة،؛ فمن ناحية بدا منضبِطاً تحت سقف خطابه السياسي ومسلماته السياسية التي تعطي الأولوية للجيش في أيّ دور ذي طبيعة سيادية على الارض اللبنانية، وهنا يبدو جلياً الربط الإستباقي الذي يجريه مع العملية يفترض الزعيم الدرزي أنّ الجيش سيقوم بها وحده في راس بعلبك.
ولا يبدو هذا الموقف منعزلاً أو ابن ساعته أو وليد الظروف الجديدة، بل هو تتمّة لما سبق وقاله جنبلاط خلال العملية الأمنية التي نفّذها الجيش اللبناني في جرود عرسال قبل أسابيع قليلة، حيث تجاوز جنبلاط بعض الأصوات التي تعالت اعتراضاً على هذه العملية وتحريضاً على الجيش، وقال يومها «كل التحيّة والتنويه بالجيش الذي أجهض مخططاً إرهابياً كبيراً كان يستهدف إستقرار لبنان وأمنه”.
ومن ناحية ثانية، وبما أنّ «حزب الله» قام بعمليته ونجح فيها، بادر جنبلاط الى توجيه تحية الى شهدائه في ما بدت محاولة ربط نزاع إيجابي يحافظ فيه على مستوى العلاقة مع الحزب على وتيرتها الإيجابية الحالية».
لكنّ المقاربة اللافتة للانتباه في مضمونها ودلالتها، جاءت على لسان أحد الأصدقاء السياسيين والشخصيّين لجنبلاط الذي اعتبر مضمون التغريدة «موضوعياً، ولا استبعد أن يكون نابعاً من إدراك الزعيم الاشتراكي بأنّ المناخ الإقليمي والدولي مناخ محاربة جدّية للإرهاب، وبأنّ الداخل اللبناني صار اكثر قابلية للحرب على الإرهاب وإنهاء بؤره في جرود عرسال وراس بعلبك وفي الداخل أيضاً».
يضيف هذا الصديق: أنا متأكد من أنّ معاناتنا الدائمة هي في تضييع البعض للبوصلة، وأنا شخصياً أعرف أنّ جنبلاط لا يخطئها. وفي أيّ حال من حقه أن يقول ما يشاء، هذا رأيه ومن حق آخرين أن يقولوا عكسه، وهذا رايهم ولا قيد على رأي أحد، قالوا موقفهم ممّا يجرى في عرسال، وما زالوا يهاجمون «حزب الله»، هذا رأيهم ولم يمنعهم أحد من التعبير عن موقفهم، أكيد هذا الكلام سيعجب بعض الناس، ولكنه في الوقت ذاته قد لا يعجب كثيرين آخرين يمكن أن يتّهموهم بأنهم خرجوا على الإجماع الوطني على محاربة الإرهاب.
قد يقرأ البعض في تغريدة جنبلاط، والكلام للصديق المذكور، دعوة «حزب الله» بالتوقف هنا، وترك باقي المهمة للجيش اللبناني، وقد يقرأ فيها آخرون إحراجاً إضافياً لكل الأصوات التي ارتفعت في الفترة الأخيرة تشكيكاً بالجيش وتحريضاً عليه، وأما أنا فأقرأ فيها دعوة مباشرة الى الالتفاف حول الجيش في معركته المقبلة، وتوفير الدعم اللازم له لتمكينه من الانتصار في حربه على الإرهاب.
ويخلص الصديق نفسه: «أنا أتفهّم انفعال البعض لسبب أنهم ليسوا في صورة ما يجري على كل الصعد لا حول الجرود ولا حول غيرها، هناك أمر كبير جداً حصل في جرود عرسال بعلم الجميع من دون استثناء أحد، وقد يليه مثله في جرود راس بعلبك، ويعني ذلك أنّ صفحة تُطوى وصفحة جديدة تُفتح، بالأمن طبعاً. وأما الحديث عن خلافات وشعرات مقطوعة او ستقطع، فكل الناس تختلف مع بعضها البعض، جميعنا نختلف مع جميعنا، وهذا أمر طبيعي.
وبمناسبة الحديث عن الحريري وجنبلاط، فأنا سمعت من أوساط الطرفين أنهما رغم اختلافهما في الملف الانتخابي وغيره، أنّ العناصر التي تجمع بينهما أكبر بكثير من تلك التي تفرّق، والعلاقة بينهما هي على الخط الذي سيوصل في النهاية الى التلاقي بينهما إن آجلاً أو عاجلاً».
يبقى أنه عندما يُسأل القريبون من جنبلاط عن تلك المقاربات، يأتي الجواب مختصَراً: «أمرهم عجيب غريب، ومثير للسخرية لا أكثر ولا أقل».