ولستُ ضِدَّ الإشادةِ بحزبِ الله الذي ضحّى بنُخَبِ شبابِه للقضاءِ على مجموعةٍ إرهابيّةٍ، لكني ضدَّ القدحِ بالجيشِ والذمِّ به والتهَكّمِ على أسلحتِه وتصويرِ دورِه في عِرسال مُرادِفاً للصليبِ الأحمَر، أو للهيئةِ العليا للإغاثة، أو لشرطةِ تنظيمِ السيرِ بين الجرودِ والبلدة.
جيشُنا قويٌّ؛ فإذا تَمكَّن من الانتصارِ في معركةِ «نهر البارد» سنةَ 2007، ولم يكن مزوّداً بعدُ بالسلاحِ الكافي كمّيةً ونوعيّةً، فكيف حالُه اليومَ وقد حَصل على أسلحةٍ فتّاكةٍ جوّاً وأرضاً وبحراً؟ سَلُوا، أيّها المشكِّكون، الخبراءَ الأميركيّين والفرنسيّين والانكليز الّذين أتَوا في السنتين الماضيتين، فاندهشوا من حنكةِ ضبّاطِنا وجنودِنا القتاليّةِ ونجاحِهم في تطويرِ بعضِ الأسلحةِ وزيادةِ قوِّتِها الناريّة.
ويَزيدُ غضبي حين يَتولّى مهمّةَ التشكيكِ بالجيشِ ضبّاطٌ متقاعِدون وُزِّعوا على وسائلِ الإعلامِ المرئيِّ والمسموعِ والمكتوب ليوهِموا الرأيَ العامَّ اللبنانيَّ والعربيَّ والدوليّ بأنَّ الجيشَ اللبنانيَّ ضعيفٌ ولا يَملِك القُدراتِ البشريّةَ والعسكريّةَ ليخوضَ المعركةَ ضِدَّ جَبهةِ النُصرةِ وداعش في منطقة عِرسال. وأَعجبُ ألّا يُستدعى هؤلاء إلى القيادةِ للتأنيبِ والتأديب، وألّا تُصدِر مديريّةُ التوجيهِ في الجيشِ اللبنانيِّ بياناً يَدحَضُ مزاعمَهم لئّلا يقعَ الناسُ ضحيَّتها.
أيُعقلُ أن يَرتدَّ عسكريّون على أشرفِ مؤسسةٍ وطنيّةٍ بعدما أمضَوا العمرَ فيها؟ وأيُعقلُ أنْ يُصبحَ بعضُ ضبّاطٍ متقاعِدين مُبشِّرين بسلاحِ أحزابٍ وتيّاراتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ على حسابِ سُمعةِ الجيشِ اللبنانيِّ وسلاحِه؟ هذه ظاهرةٌ مقلقةٌ لم يَألفْها اللبنانيّون سوى في سنواتِ الحروب (1975/1990)، حين انقسَم الجيشُ اللبنانيّ.
أما وقد حَلَّ ما سُـمِّيَ بـ«السلمِ الأهليّ» وأُبلِغنا بإعادةِ توحيدِ البلدِ والجيشِ، فلا شيءَ يبرِّر تصرُّفَ هؤلاءِ المتقاعدين الّذين ما إنْ يُسرَّحوا حتى يَسرَحوا هنا وهناك ضِدَّ المؤسّسةِ التي صَنعتهُم ونَجَّمتهُم وكَلَّلتهُم وسـيَّفتهُم.
إن الضابطَ هو ضابطٌ مدى الحياة. يَنتقلُ من ضابطٍ عامِلٍ بالخِدمةِ إلى ضابطٍ متقاعدٍ بالاحتياط، بدليلِ أنّه يَحمِل رِتبتَه معه ويَبقى يَستفيدُ بعد تقاعدِه، هو وعائلتُه، من تعويضاتِ المؤسّسةِ العسكريّة وتقديماتِها وامتيازاتِها.
لم تأتِ هذه الظاهرةُ من العدَم. فالجيشُ اللبنانيُّ هو ضحيّةُ السلطةِ السياسيّة ــ الطائفية في لبنان التي جعلَته واحِداً بين آخرين عِوضَ أن يكونَ وحيداً دونَ الآخرين.
وفي التحليلِ الأبعدِ ترجِعُ هذه الظاهرةُ إلى:
أولاً: إنّ النهجَ الطائفيَّ الذي نَشأت عليه الدولةُ اللبنانيّةُ منذ اتفاقِ الطائفِ، والقائمَ على المثالثةِ الطائفيّةِ، ارتدَّ على كلِّ المؤسّساتِ بما فيها الجيشُ اللبنانيّ، إذ انتقل جُزءٌ من ولاءِ «ابنِ الدولة» إلى «الأبّ الطائفيّ». ويتجلّى ذلك في أبشعِ مشهدٍ لدى التعييناتِ الإداريّةِ والديبلوماسيّةِ والقضائيّةِ والأمنيّةِ والعسكريّة. فالمؤسسةُ هي المَمرُّ والمذهبُ هو المَقرّ.
ثانياً: إنّ النهجَ السياسيَّ الذي نَشأت عليه الدولةُ اللبنانيّةُ منذ اتفاقِ الطائفِ، والقائمَ على خضوعِ الحكمِ اللبنانيِّ للنظامِ السوريِّ، ثم على المساكنةِ معه ومع أنظمةٍ خليجيّةٍ بعد سنةِ 2005، أَضعف سلطةَ الدولةِ وقرارَها الوطنيّ وانعكس ذلك على الانتماءِ الوطنيّ، فحافظت قِوى سياسيّةٌ من 8 و14 آذار على صلاتٍ ملتَبسةٍ مع دولٍ أجنبيّة.
ثالثاً: إنَّ النهجَ العسكريَّ الذي نَشأت عليه الدولةُ اللبنانيّةُ منذ اتفاقِ الطائفِ، والقائمَ على شَراكةٍ غيرِ متكافئةٍ بين الجيشِ اللبنانيّ والجيشِ السوريّ والمقاومةِ (حزب الله)، «حَلَّلَ» تعدُّدَ الولاءاتِ العسكريّة. وأتَت ثلاثيّةُ «الجيشِ والشعبِ والمقاومة»، بعد الانسحابِ السوريّ، تُعزِّز هذا المَنحى فانتهزَها بعضُ العسكريّين ذريعةً لعدمِ التمييزِ بين سلاحٍ وسلاح.
نتطلّعُ اليومَ إلى قيادةِ الجيش اللبناني، وتحديداً إلى القائدِ جوزيف عون الآتي من وجعِ المعاناةِ إن كابنِ بلدةِ العَيشيّةِ الشهيدة (مجزرةُ 21 تشرين الأول 1976)، وإن كقائدٍ مِغوارٍ في معاركِ تلالِ عِرسال السابقة، وإن كقائدٍ للجيش في هذه المرحلةِ الدقيقة؛ نتطلّعُ إليه ليضعَ حدّاً لهذه الظواهرِ الشاذّةِ وليأخذَ مبادرةً متعدِّدةَ المستويات:
أولاً: استدعاءُ الضبّاطِ المتقاعِدين لتذكيرِهم بدورِ الضابطِ المتقاعِد ولتصويبِ تصرّفاتِ قِلّةٍ منهم تُسيء إلى مناقبيّةِ الغالِبيّةِ الساحقةِ منهم.
ثانيّـاً: تقييمُ مسارِ المؤسّسةِ العسكريّةِ منذ ربعِ قرنٍ حتى الآن. أين نَجحت وأين أَخفقَت. أين أساءَت وأين أُسيءَ إليها (كيف ومتى ولماذا). وقمعُ أيِّ تعدٍّ على دورِ الجيشِ والتطاولِ على صلاحيّاتِه.
ثالثاً: تحديثُ العقيدةِ العسكريّةِ بما يَنسجم مع مصلحةِ لبنانَ العليا ككيانٍ ووطنٍ ودولةٍ ومجتمعٍ ودون اعتبارٍ لأيِّ مشيئةٍ طائفيّةٍ أو سياسيّة، فتتألّقُ مؤسّسةُ الجيشِ نجماً ساطعاً فوق الانقساماتِ اللبنانيّة.
رابعاً: تحديدٌ موضوعيٌّ لأعداءِ لبنان الفعليّين، وهم على التوالي: إسرائيل، الإرهابُ المختلِف، وأيُّ معتدٍ على سيادةِ لبنانَ واستقلالِه.
خامساً: توضيحُ مفهومِ عبارتَي «القرارِ السياسيِّ» و»التغطيةِ السياسيّة» لأنّهما أصبحتا، بفعلِ الانقسامِ السياسيِّ والحكوماتِ المختلَطةِ، أداةً لتعطيلِ دورِ المؤسّسةِ العسكريّة في حسمِ الأوضاعِ والقضاءِ على البؤرِ الأمنيّة. هناك فارقٌ بين قرارِ الحربِ والسلم الذي يعودُ للسلطةِ السياسيّةِ حصراً، وبين العمليّاتِ الأمنيّةِ التي هي واجبٌ تلقائيٌّ للجيشِ تحديداً.
وأساساً إنَّ معيارَ خضوعِ العسكرِ للسلطةِ السياسيّةِ في الدولِ الديمقراطيّةِ هو رهنُ احترامِ السلطة للدستور. وجيشُنا اللبنانيُّ هو جيشُ دولةٍ أيّ جيشَ شعبٍ وليس جيشَ نظامٍ أيَ جيشَ حكّام.
سادساً: استردادُ مشروعِ الاستراتيجيّةِ الدفاعيّة من السياسيّين لأنَّ الجيشَ هو المعنيُّ والخبيرُ بها، ثم عرضُها على المؤسّسات الدستوريّة لإقرارها.
يجبُ أن يُدركَ الجيشُ أنّه المؤسّسةُ الأحبُّ والأوثقُ إلى قلوبِ اللبنانيّين في كلِّ الظروف.
ويبقى عليه تثميرُ هاتين المحبّةِ والثقةِ لتحسينِ شروطِ التعاطي مع السلطةِ السياسيّة ومنعِها من إضعافِ دورهِ. ومثلُ فرنسا منذ أسبوعين واضحٌ، فالرئيسُ الفرنسيُّ «إيمانويل ماكرون» الذي ربِحَ أمام الجميعِ، خسِرَ أمام الجيش الفرنسيّ.